التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العبيد الجدد

  مذ عرفته وهو دائم الشكوى بأن ليس لديه الوقت الكافي لعمل الكثير من الأشياء، فعمله الذي يبدأه منذ أول خيوط الصباح لا ينتهي به إلا في أعقاب منتصف الليل وان وجد فسحة بسيطة من الوقت بين الصباح والمساء فهو يستغلها في قيلولة أو نوم العصر حتى يستعيد نشاطه الليلي في العمل.


هكذا هي حياته وهكذا هو مؤمن بأن عمله يتطلب منه هذا الكم من الجهد وهذا الكم من التضحيات موقنا بأن ما يفعله اليوم من عمل سوف يجني نتائجه غدا أو في القريب العاجل.


أمثال هذا الرجل كثر في حياتنا ممن يؤمنون أو بالأصح يظنون أن العمل منذ بدايات الفجر وحتى ساعات متأخرة من اليوم هو ما يقربهم زلفى لدى المسئول الأعلى منهم فتراهم يتبارون في إنهاك أنفسهم والبقاء في مكاتبهم – بعمل أو بغير عمل- وإيهام الآخرين بأهميتهم وان الدنيا والمجتمع بأسره سوف يخسر الكثير في حال قصر أو تغيب ساعة فقط عن مكتبه أو عمله.


التقيت صدفة بأحد هؤلاء لم ألتقه منذ سنين إلا عبر الهاتف فبدأ حواره معي مشتكيا من انه أصبح لا يرى أطفاله أو بالأحرى لا يعرف في أي فصل يدرسون ولا لأي مدرسة يذهبون كل ما عليه هو تحويل المبلغ المالي المترتب على نفقات دراستهم في المدرسة الخاصة إلى رقم حساب المدرسة نهاية كل شهر، بل زاد على ذلك بأنه لا يستطيع رؤية والديه إلا مرة في الشهر بسبب مشاغله وهو بطبيعة الحال لا يخرج في نزهات أو رحلات أو استجمام كل هذه المصطلحات حذفها من قاموسه الذي لا يحتوى إلا على كلمة واحدة فقط هي العمل والعمل وحده فقط.


نذهب نحن " العبيد الجدد" إلى إعمالنا كل صباح قبل شروق شمس الصباح ونستغرق كثير من الوقت في زحمة الشارع وما أن نصل إلى العمل حتى يبدأ في ممارسة عمله ويغوص بين المراجعين والاجتماعات والأوراق والكمبيوتر والهاتف حتى يجد أن الوقت قد أزف ولم ينجز إلا ربع ما خطط له – إن كان هنالك تخطيط من الأصل- فيضطر إلى البقاء في العمل إلى ساعات متأخرة أو العودة إليه مرة أخرى لانجاز ما عجز عن تخليصه في زحمة الموظفين والمراجعين.


كثير من مؤسسات العمل انتبهت إلى إدمان "العبيد الجدد" على العمل فابتكرت كثير من الوسائل لإبعادهم عن العمل أو لمحاكاة بيئة المنزل مثل ما فعلته جوجل مثل المطاعم المتعددة الأنواع حتى النباتية منها موجودة داخل مبنى الشركة مرورا بالمتاجر التي توفر كل شيء حتى الطلبات الخارجية إضافة إلى وجود كثير من وسائل الترفيه والتسلية وممارسة الرياضات المختلفة والاهتمام بالصحة البدنية ووجود وسائل الراحة والاستجمام والسباحة ووجود قاعات كبرى للقراءة والاجتماع وغيرها الكثير من الوسائل. كما حذت عدد من الشركات حذو جوجل في إيجاد البيئة المناسبة " للعبيد الجدد".


لنرجع قليلا إلى اصل التسمية حيث كانت الحضارات القديمة ومنها الحضارة الفرعونية تقوم على السخرة حيث يقوم الفراعنة القدماء بتسخير الناس واستعبادهم لبناء المعابد والأهرامات والقيام على خدمتها ولا يملك هذا العبد من أمره شيء فالأمر بيد سيده يوجهه أينما شاء. هذا هو حال "العبيد الجدد" لا يملك الموظف من أمره شيء فالأمر بيد سيده ورب عمله يقوم على تسخيره وتشغيله ليل نهار من دون أي كلل أو ملل.


نحن بحاجة إلى العودة قليلا إلى أنفسنا كي نشعر بذاتنا، نشعر بمسؤوليتنا تجاه أنفسنا وأسرتنا وأولادنا ومجتمعنا، نستشعر إن الله لم يخلقنا فقط للعمل ليل نهار، وإنما رسالتنا في الحياة تقوم على الموازنة في كل شيء، نعرف ربنا فنعبده ونخلص في عبادته ونعرف أسرتنا ونعطيها حقها وحق أولادنا نعرف حقوق العمل علينا فنؤديها بدون تقتير أو إسراف وكل هذا سوف يوصلنا بأذن من الله إلى الرضا والقناعة والسعادة في الدنيا وإنشاء الله في الأخرى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع