التخطي إلى المحتوى الرئيسي

زوايا منفرجة


سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة.
لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية جديد لمدير جديد يمكن أن يقدم منتج جديد للمستهلك. ولا يقتصر هذا التداخل في الصلاحيات على الداخل بل يمتد الى الخارج لتطال يده كيانات الحكومة المختلفة من مؤسسات وهيئات ووزارات وقطاعات مختلفة في الدولة تتشابه في تقديمها لنفس الخدمات ولكن بمسميات مختلفة يصعب على المواطن البسيط التمييز بين ما تقوم به هذه الوزارة أو الهيئة وبين ما تقوم به تلك المؤسسة.
لنعط مثالا بسيطا على هذه الزوايا المنفرجة. عندما قررت الحكومة مساندة ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وأصحاب الاعمال من الشباب العماني الطموح قامت بإنشاء الهيئة العامة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتقوم بهذا الدور وأيضا أنشأت صندوق الرفد وقامت لاحقا بتبني المركز الوطني للاعمال لاحتضان أصحاب الاعمال وأيضا تبنت قيام مركز ريادة الاعمال، هذا فضلا عن التداخل الشديد بين وزارة التجارة وغرفة التجارة وبين ما سبق ذكره من مراكز وهيئات، وأجزم من هنا أن عدد من يقوم على رعاية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من موظفين حكوميين يفوق عدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ذاتها التي وكما يبدو من ظاهر الامر أنها لم تستفد كثيرا من تشتت وتداخل أكثر من أربع مؤسسات كان من الاجدى والاوفر والاحسن دمجها كلها في مؤسسة واحدة تسهل على صاحب العمل مهمة عمله. استشهد هنا بشكاوى أرباب المؤسسات الحكومية ذاتهم عندما أجتمعوا في سيح الشامخات في ندوة تقييم تنفيذ قرارات سيح الشامخات وأجمعوا بأن بيروقراطية العمل الحكومي هي من يؤخر مصالح الشباب.
هنالك عديد من الامثلة الاخرى المتوزعة دمائها – كما قالت مغردة- بين مؤسسات الدولة منها البيئة التي تتوزع اختصاصاتها بين أكثر من مؤسسة حكومية وكأن البيئة ليست كيانا وأرضا واحدة، وأيضا التراث الذي تتقاسمه وتتنازعه أكثر من ثلاث مؤسسات حكومية كل جهة تدعي بأحقيتها الحفاظ على تراث الاجداد وصونه من الاندثار،  وقس على ذلك ما يتعلق بالاقتصاد والاعمال والاستثمار التي تتوزع اختصاصاتها بين وزارت التجارة والغرفة ووالقوى العاملة وشرطة عمان السلطانية ( حلم المحطة الواحدة )  وهذا ما أرجعه بعض المحللين الاقتصاديين الى سبب رئيس في تراجع ترتيب السلطنة للسنة الرابعة على التوالي حيث تراجع ترتيبها 13 درجة إلى المركز الرابع والستين بعد أن كانت في المركز اثنين وثلاثين في تقرير العام الماضي، وأقترح ذلك الخبير الاقتصادي إجراء اصلاح حقيقي في هيكل مؤسسات الدولة وسوق العمل.
لن أتطرق هنا الى ما خسرناه ونخسره كل يوم من هذا التداخل والتشابك، ولكن فقط سأشير هنا الى أن الحكومة تتكلف أعباء تعيين موظفين جدد للقيام بعمل يقوم به أصلا شخص آخر في جهة أخرى وهذا هو ما يرهق حاليا ميزانية الحكومة، وثانيا زيادة البيروقراطية في العمل الحكومي وتشتت المواطن بين الجهات المختلفة وهذا أيضا ما يرهق الحكومة من وجود ترهل في كيانها الاداري، وثالثا تشتت عمل الجهات المختلفة وعدم تركيزها على عملها الرئيس وغيرها من الخسائر التي لا يمكن سوقها هنا.
كما يقول المثل العربي " رب ضارة نافعة" وقد تكون الازمة الاقتصادية التي نمر بها حاليا هي كفيلة بإعادة كل الزوايا المنفرجة الى وضعها الطبيعي لتكون زوايا مستقيمة كي يسهل التعامل معها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع