التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط.
زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع بإجازة طويلة بعض الشيء فينظر إليه بأنه من الكسالى والخونة الذين يفرطون في حق عملهم، وهذا الشعور والإحساس بالجريمة هو ذاته يتكرر مع كثير من الشعوب الآسيوية التي ترى أن الإجازة الطويلة ما هي إلا هدر وقتل للوقت ولا يجوز بأي حال من الأحوال التمتع بأيام عطل تزيد عن الخمسة أيام كما هو الحال في كوريا الجنوبية التي تعتبر عالميًا أقل دولة يتمتع أفرادها بإجازات سنوية مدفوعة التكاليف بسبب شعورهم بالذنب إن هم استمتعوا بإجازاتهم.
قلت لصديقي الصيني مواسيًا، حتى هنا لدينا بعض ممن يحرصون على عدم ترك كرسيهم ولو للحظة واحدة فهم يلغون إجازاتهم السنوية كاملة خوفًا أو حرصًا منهم على عدم تعطيل مصالح الجمهور واقتناعًا منهم من أن الحياة والوظيفة لا يمكنها أن تسير بدونهم وسبب آخر وهو الخوف من أن يأتي من بعدهم أحد يعتلي على ما نزلوا عنه، فلا تستغرب يا صديقي إن تساوينا معكم في الحرمان من التمتع بالإجازات والبقاء في المكاتب لساعات طويلة فنحن في هذه النقطة تحديدًا متساوون مع فارق بسيط فقط في إنتاجية العامل لديكم وإنتاجية العامل لدينا.
بعض الدول البخيلة والمقترة على شعوبها في إجازاتهم بدأت تلين بعض الشيء أمام المشاكل التي تنتج عن كثرة ساعات العمل وقلة أيام وساعات الراحة، وظهور كثير من العلل والأمراض العضوية والنفسية والعصبية والمزاجية وعدد ما تشاء من الأمراض الناتجة عن الإرهاق في العمل والتي تؤدي في بعض الأحيان إلى الوفاة كما أسماها اليابانيون «كروشيو» التي تترجم حرفيًا إلى الموت من العمل الزائد، هذه الدول بدأت في إجبار موظفيها على الخروج في إجازات عمل طويلة وتهديدهم بالطرد إن لم يذعنوا لهذا الأمر بهدف تجنب الأمراض البدنية والعقلية والنفسية التي قد تصيبهم بسبب كثرة العمل ولحاجة النفس والبدن إلى الراحة والسكينة.
كما قلت لذلك الصديق بأنني أعرف بعضًا ممن لا يفارق كرسيه، أعرف أيضًا ممن لا يجلس على كرسيه ولا يقر له قرار فيه فهو في إجازة دائمة يتفنن في اختراعها وابتكارها بأشكال وألوان مختلفة فهو قد خبر جميع أنواع الإجازات الشرعية، وغير الشرعية المنصوص عليها في القانون وغير المنصوص عليها يعتبره أصدقاؤه مرجعًا ومضربًا للمثل في هذا التخصص فهو قارئ نهم في قانون الإجازات وخبير ومطلع على أنواع «الشردات» – كما نقول بالمحلية – يأتيك في أول الصباح بهمة منكسرة لا يلبث أن يتبعها بعذر طبخ من أمس كي يشرعن فعلته.
ما بين بخلاء الإجازات وكرمائها ضعنا وضاعت حقوق كثيرين فإدمان العمل يسبب المرض والإفراط فيه أيضًا يسبب مرضًا وإن كان من نوع آخر، ويبقى في هذا وذاك الاعتدال في الإجازة التي لا تسبب مرضًا لا لهذا ولا لذاك.


http://omandaily.om/?p=508248

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج