التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الصحافة: ليست التي اعراف

  وكأنني فوق قمة جبل أنظر خلفي لأرى سنوات الشباب التي لن أتشاءم وأقول بأنها ضاعت في دراسة تخصص لم تعد قواعده ولا أسسه وأركانه تطبق، فكلها كما قالت مارجريت ميتشيل في روايتها بأنها «ذهبت مع الريح»، ولا عزاء في هذا سوى للمشتغلين الممتهنين لهذه الصنعة التي تركوها بإرادة منهم لمن لا صنعة له ممن صار يتسلق ويتملق، ينافق ويحابي، يكذب ، فاختلط على البعض حابل هذه المهنة بنابلها، غثها بسمينها إلا على الحصيف الذي آتاه الله عقلًا راجحًا وعينًا بصيرة تمكنه من معرفة الأصل والفرع.
صحافة اليوم هي ليست الصحافة التي أعرفها ونشأت وتربيت عليها ودرست مناهجها ونظرياتها وأسسها وأخلاقياتها منذ أول سنة لي في الجامعة، هي ليست التي قيل لي عنها بأنها السلطة الرابعة أو صاحبة الجلالة، وليست هي مهنة المتاعب التي لا يرتاح أو يهدأ ممتهنها حتى يصل إلى الحقيقة ليبدأ في البحث عن حقيقة أخرى، هي ليست التي أقالت رئيسا من منصبه وكشفت فساد أنظمة، وعزلت مسؤولين عن مناصبهم. هذه الصحافة التي حسبتني أعرفها تحولت اليوم إلى مسخ حقيقي بشع المنظر كريه الرائحة لا يمت إلى الإنسانية بصلة وصار طفيليوها يوجهون دفتها إلى الهاوية التي لا قعر لها.
حديث في شأن وشجن الصحافة قادنا نحن المشتغلين بها إلى الحديث عن مأزق الصحافة العربية التي تمر به الآن لا سيما عقب ما أسمي خطأ بربيع العرب، فلم نحص المآسي التي وصل إليها حال هذه الصحافة، فالأقلام متكسرة والكلمة مقلوبة والصورة محورة والحريات معطلة والحقيقة غائبة والقيم معوجّة، وما نراه ونسمعه ونشاهده هي روايات وعنعنات غير موثوق في سندها وصحتها، معتمدة على الآخر غير الموثوق به فيما يقول ويفعل وفيما يأمر وينهى وبات الأمر برمته أشبه بحكايا الخرافة التي لا تعرف هل تصدق ما جاء فيها أم تكذبه ولكنها تسليك في يومك وتنتظر غدك لتسمع قصة وخرافة أخرى كما كانت شهرزاد تفعل قبل ذلك في ألف ليلة وليلة.
في ليالي الصحافة كنا نتلذذ بالسهر للبحث عن معلومة دقيقة للقارئ أو تحقيق صحفي يكشف زاوية من زوايا الوطن المظلمة أو سبق صحفي نتسارع في الوصول إليه قبل الغير أو استطلاع يظهر فيه مواطن بعضا من بؤسه، وننتظر الصبح حتى يتنفس كي نقرأ ما كتبناه، ونشهد ردة فعل القارئ والمسؤول عما طبخناه، وننسى ذلك اليوم بحسنته وسيئته لأن يومًا آخر غيره وليلة أخرى غيرها سنسهرها في سبيل ما كنا نعتقد بأنه بحث عن الحقيقة، ولم نكن في تلك الأيام نعتقد بأن ضوءًا قويًا كاشفًا سوف يأتي ليعمي أبصارنا ويشتت أنظارنا عما كنا نفعله، إلى أن جاء هذا اليوم فتبددت كل القيم والأخلاقيات واستبدلت بقيم أخرى وافدة اعتمدت الكذب دستورًا والنفاق منهجًا والتشهير ديدنا وصار كل من لا يقبل بالمنهج الجديد خصمًا وعدوًا ومصنفًا في خانة الخونة والعملاء والمتآمرين والمتعاملين مع الآخر الذي كان في يوم من الأيام صديقا صدوقا.
لعلي هنا لا أتجنى على نفسي أو على زملائي ممن رضي بهذه المهنة كسبا للعيش، ولا على كل من حمل قلما شريفا يدافع به عن مبدأ أو قيمة أو خلق نبيل، ولا على من ترك قلمه جانبًا حتى جف حبره كي لا يخوض مع الخائضين ولا يكون في حسابات اليمين أو الشمال ولا على من صمت دهرًا بانتظار انقشاع غمة طال أمدها فلم تنقشع بعد، ولكنني هنا أهمز وألمز إلى من تدحرج حتى وصل إلى أسفل السافلين فلم يمنعه من سقطته هذه أي وتد يستند عليه أو عصا يتكئ عليها تمنع عنه سقطته، فصار حاله كحال شيخ علم سقط ذات السقطة وسياسي فعل ذات الفعلة واقتصادي سلك ذات المسلك ومدون خطا ذات الخطوة ولم تستطع القيم ولا الأخلاق ولا الأعراف ولا العادات لأي من هؤلاء منعهم من الانحدار والانجرار إلى الأسفل، ولعلي هنا لا ألوم الصحافة على فعلتها، ولكنني أتبرأ منها فهي ليست التي كنت أعرف.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع