التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أنسنة المدن



قد لا اجافي الحقيقة إن قلت أن التخطيط الحضري القديم كان أفضل في نوعه من التخطيط الحديث بمرات عديدة، المدينة أو القرية القديمة كان تخطيطها يعتمد في أساسه على الانسان وحاجته ومتطلباته اليومية مع ابقاء الخدمات المصاحبة قريبة من متناول الانسان الساكن وتوفير البيئات الصالحة للسكنى بأقصى معايير الجودة والنظام بحيث لا يتداخل او يتدخل أو يزاحم أي مرفق على مرفق آخر فالجزء يخدم الكل والكل يشكل منظومة سكانية حضرية يتداخل فيها الانسان مع حيزه المكاني.

مع التمدد الحضري وزيادة عدد السكان في القرى والمدن لم يعد بالامكان السيطرة على الزحف العمراني فدخلت الكثير من المفاهيم العشوائية على اسلوب ونسق المدينة العربية والاسلامية والعمانية وغابت الكثير من التفاصيل التي كانت حاضرة في المدينة القديمة ولم يعد ذلك النظام موجودا ولا تلك الروح التي كانت تميز المدن عن بعضها بل ذابت كل تلك العناصر واصبحت المدن والقرى عبارة عن نسخة ممسوخة من تخطيط حضري ظل طريقه.

تتشابه مدننا وقرانا تشابها متطابقا في كونها مدنا ليست بالصديقة للانسان وانما هي أقرب الى علب اسمنتيه ليست بذات حياة ممزوجة بشوارع طولية وعرضية مرصوفة بالاسفلت الاسود تخترقها أعمدة للانارة وكابلات معلقة في الهواء تتراقص مع كل هبة ريح. هذه المدن إن لم ابالغ في وصفي واقسو فيه على من خططها هي مدن أشباح يخلو كثير منها من الحياة والروح حتى الغطاء الاخضر والمسطحات المنبسطة اختفت من على وجه تلكم المدن، لا تتوافر في كثير من تلك المدن حقوق للمشاة الراجلين ولا حقوق لطفل يحلم في حديقة يلعب فيها بجانب بيته او حقوق لمعاق يستطيع فيها مبارحة بيته للتنزه و الاعتماد على ذاته في قضاء حوائجه او حقوق لمريض يمكنه فيها اتباع نصيحة طبيب بالمشي او حقوق لرياضي يستطيع أن يستثمر فيها مستقبله في رياضة بدنية او نفسية، ولا حتى حقوق لكبار السن في الالتقاء والتجمع او حتى وجود مراكز مدنية ذات اشعاعات حضارية وثقافية ومعالم تاريخية وحضرية يمكن التجمع فيها وتنظيم الاحتفالات والمهرجانات واللقاءات لمختلف فئات المجتمع.



في المدن القديمة يمكن وبكل بساطة الاستماع الى صوت المدينة ورؤية روحها ترتفع من الارض الى السماء، يمكن في ركن قصي سماع أصوات الباعة والمتجولين في الاسواق الشعبية والليلية وفي ركن آخر تسمع همسات كبار السن في تجمع يعيد لهم ذكريات الماضي وأنس الحاضر وفي ركن ثالث صخب الاطفال ولعبهم ولهوهم وفي ركن رابع صوت الطبيعة تغرد وتزقزق وترفرف بأغصانها الخضراء التي تحف الجميع بظلالها. في مدن اليوم صمتت كثير من هذه الاصوات واختفت العديد من تلك الاركان وتسيد المشهد صوت الشارع والسيارات والدراجات وخفتت اصوات الطبيعة وضحكات الصغار وهمسات الكبار.

أنسنة المدن بجعلها صديقة للانسان يتطلب اعادة تعريف المدينة وتعريف الانسان وتعريف العلاقة بين الاثنينبتصمم تلك المدن وفق احتياج الانسان كما ذكر ابن خلدون قبل ستمائة عام في الفصل الخامس من مقدمتهالشهيرة فيما تجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن المراعاة"  حيث قال " ولمّا كان ذلك القرار والمأوى وجب أن يراعى فيه دفع المضارّ بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها" . ويسرد ابن خلدون في فصله الماتع هذا انواع الحماية من المضار كوجود سياج على البيوت وتوافر الهواء النقي الغير الذي يقي من كثير من العلل والامراض ومما ذكره ايضا ابن خلدون في جلب المنافع للمدن فعدد جلب الماء النقي وتوافر المرعى الطيب وغيرها من الشروط التي ساقها لتشييد مدن صديقة للانسان والبيئة.

قد لا يكون الاوان قد فات لاعادة تعريف المدينة والقرية العمانية وأنسنتها بادخال كثير من المحسنات على بعض مفاصلها ــ مثل ما تقوم به بعض البلديات من تشييد مماشي خاصة للرياضة والاستجمام ــ واستحداث بعض المرافق الصديقة للانسان التي تعينه على الاسترخاء والراحة وتخدم فئات المجتمع المختلفة من سن الطفولة حتى الكهولة وتخدم التاجر والموظف والباحث والرجل والمرأة ويكون لكل مدينة صوتها وحياتها ونفسها الخاص بها يميزها عن مثيلاتها من المدن الاخرى.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع