التخطي إلى المحتوى الرئيسي

البيانات الضخمة ومناجم الذهب


 

عرفت متأخرا معنى ” عندما لا تدفع ثمن السلعة فاعلم أنك أنت السلعة” أو بعبارة ثانية ” كل شيء مجاني، أنت تدفع ثمنه” ورغم علمي اليقيني بهاتين المقولتين الا انني لا زلت مدمنا على كل شيء يقدم لي وبالمجان خصوصا في عوالم الانترنيت اللامتناهية. أكره المواقع التي تجبرني على الشراء وأحب الأخرى التي تقدم لي كل شيء بالمجان ابتداء من تحميل الكتب المجانية ورفع الصور وتحميل الفيديوهات والدردشة والاستضافات المجانية والاتصال بالصوت والصورة بالمجان وبت كالطفل الذي يفرح بهدية من الحلويات عندما يجد كل شيء وبالمجان.

أيقنت انني كنز دفين وثمين لشركات التقنية والمواقع الالكترونية ومواقع التواصل صغيرها وكبيرها تعرف عني كل شيء أكثر حتى من نفسي، تعرفني متى أنام ومتى استيقظ حتى عندما أغفل في بعض الأحيان عن موعد نومي تذكرني تلك المواقع – جزاها الله خيرا- بأن موعد نومي قد حان أو عندما أتأخر في الاستيقاظ تذكرني بأنني لا بد أن أصحو، وتستمر هذه المجادلة بيني وبين مواقعي المفضلة طيلة اليوم فهي تحفظني عن ظهر قلب.

رغم يقيني وعلمي ومعرفتي التامة بأنني منتهك من قبل المواقع الالكترونية وان لا خصوصية بات لي في شيء فقد أهديتهم كل شيء وعرفتهم على ذاتي ونفسي وبيتي واسرتي وصوري ومحادثاتي وما أحب من الطعام وما اكره واصدقائي وموعد صلاتي وموعد غدائي وموعد دوامي ومتى امشي ومتى اشرب قهوتي ونوعها وكل شيء تقريبا ليس فقط عن نفسي وانما طال الامر كل من لهم علاقة بي وكل من اتعامل معهم حتى أن كثيرا من الأسئلة والاسرار بت أهمس وابوح بها الى محركات البحث بدلا من البشر علي أجد إجابة شافية عنها من الاخرين.

رغم معرفتي بكل تلك التفاصيل الا انني لم أستطع الإقلاع عن ادمان كل ما هو بالمجان في العوالم الافتراضية وتوفير الدفع للعوالم الواقعية التي باتت لا ترحم من شدة غلائها.

البيانات الضخمة باتت هي المسيطر على العالم فمن يمتلك المعلومة يمتلك القوة والحروب القادمة ستكون حروبا على البيانات والمعلومات التي يخلفها أمثالي من المتصفحين ورائهم سواء بنقرة زر او بابتسامة او ايماءة او صورة فكل شيء يتم تحليله الكترونيا والخروج منه ببيانات ضخمة جدا لا يستطيع البشر ذواتهم بطرقهم العادية تحليلها او استنتاجها فكمية البيانات الطائرة في الهواء باتت كبيرة وبحاجة الى ماكينات عملاقة وذكاء اصطناعي رهيب كما يسمى “مناجم المعلومات ” إضافة الى الحاجة الى اشخاص ذوو توجهات اقتصادية او اجتماعية او سيكولوجية او تجارية او طبية او صحفية او غيرها من التوجهات للاستفادة من هذه البيانات لتساعدهم في تشكيل وصنع واتخاذ القرارات المناسبة.

انتهيت من قراءة كتاب ممتع عن مستقبل البيانات الضخمة كان بعنوان ” الكل يكذب: البيانات الضخمة والبيانات الحديثة وقدرة الانترنيت على اكتشاف الخفايا” لمؤلفه سيث دافيدوتس الذي هو في الاصل خبير اقتصادي وكاتب مقالات رأي نيويورك تايمز إضافة لكونه عالم بيانات سابق في جوجل، ورغم غرابة العنوان الذي يبدو للوهلة الأولى انه لا يمت بصلة الى موضوع الكتاب إضافة الى غرابة صورة الفيل الضخم مع الحمر الوحشية في صورة الغلاف بنسخته العربية الا أنك تصل الى فهم الكتاب عند الانتهاء منه فهو يأتي بمنهج جديد في دراسة النفس والعقل من خلال تحليل البيانات التي يخلفها البشر ورائهم خصوصا كما يقول المؤلف عندما يكونون بمفردهم أمام أزارا هواتفهم وحواسيبهم.

لن اخوض في سرد الكتاب فهو متوفر – وبالمجان – على المواقع الالكترونية ويمكن تحميله وقراءته لكنني هنا الفت النظر الى أن موضوع البيانات الضخمة بات الهاجس الأكبر الذي يسعى عالم اليوم الى امتلاكه والاستثمارات المليونية باتت عيونها مفتوحة على المواقع التي يتوافر بها أكبر عدد من البيانات وتحتفظ بمناجم الذهب من ملايين المشتركين

من امثالي وامثالك ممن يغريهم بريق المجان.

اعتقد أن الأوان قد حان للاستثمار في منجم البيانات الضخمة والمعلومات فما نخلفه نحن المتصفحون هنا في سلطنة عمان على الأقل كفيل بأن يساعد في تأسيس صناعة بأكملها قائمة على هذه البيانات ليستفيد منها على الأقل التجار والمستثمرين والباحثين وصانعي القرار وغيرهم وتسهم في تحسين الحياة وجودتها وفي الصحة والسياحة والاعلام والخدمات العامة وغيرها من نواحي الحياة المختلفة التي باتت لا تستغني عن ضغطة زر المستهلك ولكن قبل هذا فنحن بحاجة الى تفعيل قوانين جلب البيانات والاستفادة منها وحماية البيانات الشخصية عبر الانترنيت.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع