التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لا معنى للمكان

شخص لعبت الصدفة وحدها دورا في رفعه من منزلة المغمور إلى مرتبة المشهور في فضاءات المكان، يتحدث عن ذاته بأنه لا يحبذ الإشارة إليه بأنه "مؤثر" أو " مشهور" أو غيرها من الأوصاف المتداولة على ألسنة الغافين على دروب وطرقات وسائل التواصل. هو يميل إلى التبسط في استخدام الكلمات كحال ما يقدمه من تبسيط في القول والفعل من خلال ما يعرضه على الألواح المحمولة، يقول بأنه إنسان بسيط ومتبسط لكن الوسيلة هي من جعلته رقما صعبا في العالم الرقمي.

  

كحال الأسئلة الوجودية في الحياة تساءل رواد الاتصال الأوائل عمن يأتي أولا هل الوسيلة هي من يصنع الرسالة أم أن الرسالة هي من يؤطر الوسيلة؟ وبمعنى آخر هل الأهمية في وسائل الاتصال والإعلام تكون للوسيلة الناقلة للرسالة أم أن المضمون والمحتوى هي من يفرض نفسه كلاعب أساسي في تشكيل الوسيلة؟

بإسقاط هذه المصطلحات والتعريفات على عالم اليوم نستطيع القول إن وسائل الإعلام التقليدية كالصحف والإذاعات والتلفزيونات وما شاكلها من وسائل تقليدية كان المحور الأساس فيها ما يقدم للجمهور من مضمون ويتلقاه الناس من خلال تلك الوسائل فالغلبة هنا كانت لمضمون الخطاب المقدم. أما في عالم اليوم فالكفة على ما يبدو وكأنها تميل إلى ترجيح الوسيلة على المضمون أي أن وسائل التواصل الحديث بكافة أشكالها وألوانها تغلبت على ما يقدم فيها من مضمون أيا كان نوعية ذلك المضمون المقدم.

هنا نعود إلى جدلية المؤسسين الأوائل لعلوم الاتصال حين قال مارشال ماكلوهان في منتصف ستينيات القرن المنصرم بأن الوسيلة أهم من المضمون وأن "الوسيلة تؤثر في المجتمع الذي تعلب فيه دورا ليس فقط بواسطة المحتوى الذي تقدمه وإنما أيضا بخصائص الرسالة نفسها"

في ذلك الوقت لم يتبن أحد كلام ماكلوهان واعتبر بأنه كلام غير منطقي وبعيدا عن الإقناع لكن مع تغير الزمان وتبدل الوسائل عاد كلام عراب علم الاتصال إلى الواجهة وصدقت نبؤته بأن وسائل التواصل الاجتماعي كوسائل إعلامية باتت هي من يتحكم في المضمون وهي من يوجه دفة المضمون وليس الوسيلة التي أصيبت بقصور شديد في قدرتها على إيصال رسالتها ومضمونها إلى الجمهور المتلقي وبالتالي اختفى الأثر المطلوب تحقيقه من تلك الرسائل.

بتقريب الصورة على تاريخ وماضي وسائل الإعلام وتطورها على مدى ما يربو على الثلاثمائة سنة الماضية نجدها في الأساس بأنها لم تخترع لتكون وسائل إعلامية تخاطب الناس كما حدث مع المطبعة التي اخترعها جوتنبرغ لطباعة الكتاب المقدس أو ما مع راديو ماركوني الذي اخترعه لتسهيل تواصل السفن وسط البحر أو حتى مع فيسبوك مارك زوكيبربرغ الذي أنشأه في الأساس للتواصل بين طلبة جامعته ومن ثم أصبح منصة عالمية ووسيلة من وسائل الإعلام، إلا أن هذه الوسائل القديمة منها والحديث تم تطويعها وتطويرها لتكون وسائل إعلامية تخاطب ملايين البشر وتتوجه برسائلها ومضمونها إلى العالم أجمع.


وهنا تحضرني مقولة قديمة تقول إن الجديد يولد من رحم القديم فوسائل الإعلام المتجددة ما هي إلا بناء على الوسائل القديمة وتستفيد من خبراتها وتقنياتها كما حدث ويحدث مع الإذاعة التي بنت على آخر تقنيات الصحافة وأضافت عليها بعضا من نكهتها، كذلك الحال مع التلفزيون والإعلام الجديد الذي هو في طور البناء من الوسائل التقليدية التي سبقته، وما سيأتي مستقبلا من وسائل للإعلام والتواصل ستبني على ما وقفت عنده الوسائل السابقة وستضيف عليها بصمتها الخاصة بها.

الألواح البراقة أسالت لعاب كثيرين وخدعت آخرين وأغرت ملايين واستدرجت الجميع إلى شباكها التي نصبتها لهم بالحسن والقبح. البعض أحسن استخدام الوسيلة والآخر أساء لنفسه ولها وبين هؤلاء وهؤلاء تبقى هذه الوسيلة أو تلك أيا كان شكلها ونوعها أداة ناقلة لمضمون نافع أو ضار ويبقى الفيصل في كل ذلك هو الجمهور المستهدف الذي يتعرض لهذه الوسائل لتحديد الوسيلة التي تناسبه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع