التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حوار بين حداثي وتقليدي

لم تعد الحياة كما كانت عليها من قبل فكل ما فيها تحول وتبدل وترقم وتحدث، صار حداثيو الحياة المتطورة يطلقون على كل ما هو قديم مصطلح «تقليدي» ويوازيه في ذلك مصطلح آخر ابتكروه هم ذواتهم فأسموه « بالحديث» للدلالة على أن كل ما لا يتفق مع أهوائهم هو تقليدي وما يتواءم معها هو حديث أو حداثي أيا كانت حداثة ذلك الشيء سواء أعاد بالنفع على البشرية أم ساهم في تكريس تخلفها وتراجعها أم ساهم في الإجهاز والقضاء على بعض من مبادئها وقيمها وأخلاقها.
أكتب هذا الكلام بعد جدل طويل دارت رحاه بيني وبين آخر وسمني بالتقليدي والحمد لله أنه لم يسمني بـ «الرجعي» ووسم نفسه بالحداثي المتطور المنفتح على العالم وشؤونه وشجونه، دارت بيننا بعض الحوارات الساخنة على أرض الواقع أي وجها لوجه وهذا ما اعتبرته بداية تقدم عليه حيث إن المناظرة بيننا لم تجر بطرق حديثة وباستخدام وسائط وتقنيات حديثة فكان هذا أول نصر مؤزر لي.
هو رآني وأمثالي من التقليديين بأننا لا نزال من ألد أعداء الطبيعة والمحاربين لها بإصرارنا على استخدام الورق ومنتجاته في القراءة والكتابة، في حين أن الحداثة التقنية التي يتبع هو مذهبها ساهمت في حفظ التنوع البيئي ومنع التدهور والتصحر والاحتباس الحراري من العالم بفضل الألواح المعلقة التي يستخدمونها في الرسم والقراءة والكتابة وكل شيء يعنى بالتدوين فأتباع هذا المنهج يتنقلون من لوح إلى آخر من بداية اليوم وحتى نهايته لا وقت لديهم لورقة هنا أو كراسة هناك وكتاب هنا وجريدة هناك فكل ما في الكون يجب أن يختزل في شاشة واحدة تحملها أينما يممت وجهك تصلح لكل زمان ومكان.
لم تفلح دفوعي التي دفعت بها للرد عليه في تبرير إصراري على استخدام الورق من أن فوائده ليست فقط في صفاء الذهن واستخدام أكثر من حاسة في القراءة والكتابة والرسم بل تتعداها إلى سهولة في الفهم وتركيز في المحتوى والأهم من ذلك بقاء الورق كمصدر للرزق لنا ولغيرنا ممن لا يزال يعتمد عليه ولو تحولنا إلى حداثتكم لقضي على مصدرنا الذي يقيت وأد يومنا.
عاجلني بالقول بأن ما بررته غير مقنع تماما، لا سيما وأن مؤسسات التعليم التي أشرت إليها عرضا في حديثي باتت حديثة واستغنت عن التقليدية في القراءة والكتابة فمناهجهم صارت رقمية حديثة وفصولهم الدراسية صارت افتراضية وأقلامهم ومساحاتهم صارت إلكترونية حتى حقائبهم التقليدية اختفت من الوجود فصارت ألواحا محمولة. فسرت له ذلك بأن من أسباب ضعف التحصيل الدراسي في كثير من هذه الأمثلة هو طلاقها البائن للورق وفراقها للمدرس الشارح للعلوم والمناهج وابتعادها عن منهج السلوك السوي في الشرح والمناقشة والمحاورة واكتفاء الأستاذ وطلابه بالتراسل اللوحي بينهم من دون لقاء وهذا ما لا يرسخ درسا أو يعمق فهما، ثم إنني عاجلته بقولي إن كثيرا من طلاب هذا الزمان منكبون على ألواحهم الصغيرة والكبيرة لا يتواصلون مع مدرسيهم فضلا عن أقرب الناس اليهم آبائهم وإخوانهم وأزواجهم وذرياتهم فهم منكبون على مسطحاتهم يضحكون من غير سبب ويبكون من غير سبب، لا تراهم العين ولا تسمعهم الأذن كل يومهم ونهارهم يتواصلون فيما بينهم بطريقتهم الحداثية التي تخلو من الروح والجسد والتواصل البشري الذي جعله الله سمة لهذا الإنسان الذي خلقه.
لم ينبس صاحبنا ببنت شفة كما يقول الشعراء التقليديون ولكنه ألقى باللائمة على من يقوم بهذا الفعل الذي عده بأنه غير مقبول أو مشروع ولا بد للفرد أن يعود إلى رشده وصوابه بدلا من إمضاء يومه ونهاره على ما لا طائل منه. اتفقنا في نهاية المناظرة أن يحترم كل منا الآخر في رأيه ومنهجه وأن يحاول كل منا أن يأخذ من الآخر ما يبقيه تقليديا أو حداثيا حسب متطلب الزمان والمكان وأن لا ينجر كل منا لا إلى القاع ولا إلى القمة بل نأخذ من كل شيء بقدر.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع