التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تواصل


عندما أعود بالذاكرة الى الوراء قليلا يوم كنا صغار، كانت العائلة – سواء كبيرة أو صغيرة- تجتمع كلها على مائدة الطعام ولا يوجد هنالك عذر لأي فرد للتخلف عن هذا الاجتماع، تتحلق بعدها الأسرة وتجتمع على شاشة التلفزيون ويبدأ بعدها الحديث عن الاوضاع في قريتنا أوما شاهدناه من برامج في التلفزيون.

الا أن قيمة هذا التواصل لم تعد اليوم موجودة لا مع العائلة الكبيرة ولا الصغيرة ولا حتى بين الرجل وزوجته، حيث أشارت دراسة بريطانية نشرت مؤخرا الى أن " أن روح التواصل بين العائلات البريطانية انعدمت ودخلت في مرحلة غيبوبة، بعد أن تعودت الجلوس على طاولة واحدة تتبادل الحديث على مأدبة العشاء.

ووجدت الدراسة أن العائلات البريطانية بالكاد تكلف نفسها عناء التحدث إلى بعضها البعض بغض النظر عن جلوس افرادها معاً لتناول وجبات الطعام، واعترف 20% من البريطانيين بأنهم يتحدثون مع نصفهم الآخر أقل من 10 دقائق باليوم.”

الى هنا انتهت الدراسة التي اجريت في بريطانيا ولكن يبقى ما أن يحدث في بريطانيا هو ما يحدث تقريبا في كل دول العالم لان المدنية والعولمة والتقنيات الحديثة قد غزت كل جزء على أرض هذه البسيطة حتى صار ما يحدث في أفريقيا هو تقريبا نفسه ما يحدث في آسيا ويحدث في أوربا وكل بقاع العالم، ونحن بالطبع جزء من هذا العالم وقد تنطبق علينا الى حد كبير نتيجة هذه الدراسة من أن روح التواصل بين العائلات العمانية انعدمت - أو قد تنعدم قريبا- .


من أبرز القيم التي حرص أبي على زراعتها في نفسي وتربت تلك القيم لدي عندما كبرت هي التواصل مع الأهل والجيران، فمنذ الخيوط الأولى لشمس كل صباح جميل كنا نلتقي جيراننا لتناول القهوة العمانية وما يصاحبها من "فوالة" ليذهب بعدها الكل إلى حال سبيله باحثا عن مصدر رزقه، وهذه عادة جميلة متأصلة في المجتمع العماني فالسبلة العمانية هي مكان الالتقاء وأخذ العلوم والأخبار ومعرفة أخبار الآخرين وما يستجد من أحداث على صعيد القرية والبلد، كذلك هي المكان الأمثل للاطمئنان على الآخرين ومعرفة أخبارهم.


ما نلمسه اليوم من تعميق للفردية وموت بطيء للتجمع على الرغم من التطور الكبير والهائل في وسائل الاتصال والتقنية الحديثة، إلا أن هذا التطور هو السبب الرئيس في الإجهاز على روح الجماعة فالتقنيات الحديثة ابتداء من الهاتف النقال وجهاز الكمبيوتر وشبكة الانترنيت والفضائيات وغيرها من الوسائل لم تفلح في لم شمل العائلة على وجبة الطعام فالكل يأكل بمفرده ويشاهد التلفزيون بمفرده ويتخاطب مع العالم عن طريق كمبيوتره الشخصي بمفرده ويعمل بمفرده وينام بمفرده ويصحو بمفرده ويقود سيارته بمفرده وان قرر أن يتواصل مع غيره فانه يلجأ إلى الرسائل القصيرة أو الاتصال من هاتفه وتمضي الحياة هكذا كل يوم.

كما يقول المثل القائل " الإنسان عدو نفسه" فهو يخترع ويبتكر كل ما هو جديد لتسهيل التواصل مع الآخر ولكن يبقى ما يخترعه هذا الإنسان هو مصدر شقوته وانعزاليته ويساهم يوما بعد يوم في انعدام تواصله مع الاخر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع