التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لا أريد لهذا الفيروس أن ينتهي



       ليسامحني الشاعر الكبير محمود درويش فاستعير منه عنوان آخر دواوينه الشعرية ” لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي” فأنا لا أريد لهذا الفيروس أن ينتهي فقد تعلمت منه كثير من الحكم والدروس والفوائد العظيمة التي لولاه لما تسنى لي أن أتعلم كل هذا الكم من العلوم والمعارف في كافة جوانب الحياة منها ما يتعلق بالنفس البشرية وضرورة التباعد بين البشر ومنها ما يتعلق منها باكتساب العلوم البشرية المختلفة في التقنية والاقتصاد والطب والتعليم وكثير غيرها.
تعلمت في هذه المحنة ما لم أتعلمه في دهر كامل، تعلمت الاصغاء والصمت أكثر من الكلام الذي لا طائل منه، تعلمت من صمتي قراءة ما يثرثره كثير من الناس وما يمكن أن تقودهم اليه ثرثرتهم، تعلمت أن الصمت فضيلة لا يتقنها كثير من الناس وأن الحديث قد يكون رذيلة يتسابق إليه كثير من الناس، تعلمت أن العزلة والانطواء والتباعد والخلوة هي من أفضل حالات الإنسان كي يعرف ذاته ليسألها عما بها وما تشتكي وما تعانيه من آلام ذاتيه وأوجاع خارجية، تعلمت أن النظر الطويل الى الأشياء يمنحك التفكر فيما خلق الله من مخلوقات لم نكن لنجد الوقت لمعرفتها والتعرف عليها لو لا هذا الفيروس الذي باغتنا وانقض علينا وفرض على البشرية عزلة إجبارية.
تعلمت أن المحن تأتي بالخير دائما كما قال خوسيه ساراماغو “انه حتى في أسوأ المحن قد تجد خيرا كافيا يمكنك من احتمال المحنة” وهذا الخير جاء في أشكال وصور كثيرة تمثلت في تكاتف وتعاضد المجتمع، في تعلم مهن وحرف وصناعات جديدة، في اختراعات واكتشافات حسنت حياة الإنسان في حاضره ومستقبله، في تقليب الأرض للبحث عما تختزنه من كنوز ومعادن نفيسة، في الإنسان وما يمكن أن يصنعه أن أعطي الثقة والتمكين في ذاته، في تحسس معاناة فقير أو مسكين أو عابر سبيل، من الإحسان الى الحيوان، في الأرض حين ترتاح من مخربها وتشتم الهواء النقي وتنعم بالماء الصافي، في السماء الصافية من الدخان والملوثات في الخير ذاته حين يكون من الإنسان الى الإنسان.
لا أريد لهذا الفيروس أن ينتهي، فبانتهائه ستعود الى الحياة الى همجيتها ويعود الإنسان ليقتل ويشرد أخاه في الحروب، سيعود البشر الى طبيعتهم في التشكي والتذمر من الحياة وصعوبتها ومآسيها وسرد مصائبهم المالية والاقتصادية والعسكرية، ستعود الأرض الى الشكوى مع عودة الإنسان الى طبعه في تدمير وتلويث وتقليع الأرض، وستعود السماء الى الأنين بمجرد عودة الإنسان الى حياته السابقة وسباقه مع ذاته ونفسه، وسيعود الإنسان للشكوى من أخيه الإنسان بسبب التقارب بينهما وكثرة الكلام وقلة الانصات.
ستعود الحياة الى طبيعتها ويعود السياسي الى ممارسة غطرسته وجبروته، ويعود العسكري الى آلته ومعداته ليدمر الآخر، ويعود الغني ليزيد رصيده المتأثر بأموال أنفقها خوفا على مصيره، وسيعود الفنان والرياضي والمهرج كلا الى طبيعته لاستغلال الموقف وزيادة رصيده، وتعود الحياة طبيعية ليعود بعدها من كان في الصف الأمامي في خط المواجهة من أطباء وممرضين وشرطة وحماة الأمن الى الظل لا يلتفت اليهم أحد وليتسلق على أكتافهم بعضا ممن يجيد استغلال المواقف وسينتهي المشهد أخيرا ليأتي الرواي كي يروي لنا قصة فيروس صغير تحول الى وباء عالمي استطاع أن ينشر الأمن والسلام والاستقرار على الأرض لفترة قصيرة من الزمن.
لا أريد لهذا الفيروس أن ينتهي كي لا تعود الحياة طبيعية كما كانت عليه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع