التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الحياة في 2020













عبدالله بن سالم الشعيلي.

كان لهذا العنوان أن يكون ذا وقع كبير لولا فيروس صغير الحجم لا يرى بالعين المجردة أوقف صخب الحياة وأرجعها على الأقل عشر سنوات للوراء، كان لهذا العنوان أن يشد انتباه القارئ لو أن الحياة استمرت على وتيرتها في التناحر والتحارب والتخابر بين الأفراد والمجتمعات؛ لو أن الحياة سارت على ذات الوتيرة من التسابق في الابتكار والاختراع والتقنية على الأرض وفي الفضاء؛ كان يمكن أن يكون كل شيء طبيعيًا لو لم يخرج هذا الفيروس من قمقمه فيبدأ في نشر الخوف والذعر في كل مكان ويلزم الناس بيوتهم ومساكنهم.

كانت الحياة تلهث والناس من ورائها تركض منذ انشقاق الفجر حتى منتصف الليل أو تزيد قليلا، فلا الراكض يهدأ ولا المركوض وراءه يلحق؛ لهاث يصل إلى حد انقطاع الأنفاس من قسوته وشدته وطول مداه ، لا ينقطع ولا تبدو بارقة أمل لانتهائه أو انقضائه.
لهاث كانت تُسمع جعجعته ولا يُرى طحنه ؛ حتى جاءت اللحظة التي صمتت فيها أنفاس اللاهث وتوقف كل الراكضين عن ركضهم وكأن الزمن أوقف ساعته على الدقيقة صفر من عمر البشرية حتى اشتكى الكل من أن الزمن يمشي بطيئًا مملًا بسرعة لم يعهدها كل البشر على هذا الكوكب الأزرق.
كانت الحياة قبل العام 2020 تسير نحو الهاوية يتحكم فيها مجموعة صغيرة من السماسرة ممن أوكلوا أنفسهم رعاة لهذا الكون وحراسا له ؛ سماسرة الحرب والسلم ؛ سماسرة البيع والشراء؛ سماسرة الدين والتدين؛ سماسرة الأخلاق والقيم؛ سماسرة الاقتصاد والتقنية؛ سماسرة في كل مجال أوكلوا أنفسهم حراسا للكون فصاروا يحكمون باسم البشرية يقبلون هذا وينفون ذاك ؛ يغفرون لمخطئ ويؤنبون تائبا؛ يرفعون وضيعًا ويخفضون عزيزا؛ يعلون شأن رذيلة ويخفضون فضيلة ؛ يقاتلون بريئا ويهادنون عدوا؛ يدنون غنيا ويقصون فقيرًا، حياة أقل ما توصف به بأنها حياة غاب يأكل فيها القوي الضعيف.
حتى بدأت كفتا ميزان الحياة في التعادل بعض الشيء – بفضل فيروس حقير- فلم يعد هنالك غني أو فقير بمنأى عن وسوسات هذا الفيروس؛ ولم يعد هنالك أبيض أو أسمر بمعزل عن الإصابة بهذا الداء ولم يعد أي شيء وكل شيء منزها عن حمل هذا الفيروس ونقله لمن يحب؛ حتى تساوى الناس ولأول مرة في الخوف والرعب من مجهول لا يعرف كنهه.
كانت الحياة بحاجة إلى صمت وسكون وعودة إلى الذات ومراجعة النفس ومواجهة عدو داخلي وخلوة إجبارية بين نفس وصاحبها لا يدخل بينهما ثالث؛ كانت الحياة بحاجة إلى مناجاة لخالق النفس ومدبر الكون ومسير الأرض؛ كانت الحياة بحاجة إلى صمت زكريا وتبتل مريم وتنسك عيسى ووحدة محمد. كانت بحاجة إلى دعوة أيوب «أني مسني الضر» ورجاء يونس «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» واستغفار موسى «رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي» وكانت بحاجة إلى ركض أيوب لإيجاد العلاج «اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب»
ستؤوب الحياة إلى طبيعتها وسيرجع كل شيء كما كان وسيستمر البشر في تكرار ما كانوا يقومون به وستبقى الذكرى وحدها ما يؤرخ أن عاما كان مليئا بالأسقام والأوجاع أسكن الناس بيوتهم لبرهة عادوا بعدها للهاثهم وسيبقى أنني حاولت إيجاد ذاتي من خلال هذا الداء فلم أستطع

منشور بجريدة عمان 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع