التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أيام من العزلة

عبدالله بن سالم الشعيلي.

وكأنه حلم نعيشه أو رواية من خيال نقرؤها أو كلام غير ذي عقل يصدق فينا. كل تنبؤات العرافين لم تستطع الوصول الى هذا الحال وكل روايات الخيال المكتوب لم تقدر أن تشطح بخيالها للحالة التي نعيشها، وكل ما عاشته البشرية من حروب ودمار ومآس وأسقام وأوجاع وأوبئة هو في كفة وما نحياه اليوم من تجربة وباء غزا الدنيا وشغل الناس هو في كفة أخرى. لم يتبق لنا شيء في هذه الحياة يمكن أن نخشاه أو نرهبه أكثر مما مر بنا من أوجاع ومآس وما قد يأتي مستقبلا لن يكون ذا بال أو شأن أكثر مما مر بنا.فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة وصف بالذكي تمييزا له عن اخوته من الفيروسات التي سبقته ومجاراة للحالة الكونية التي نعيشها بتضخيم الأشياء وعملقتها ووصف كل ما هو جديد ومتطور بالذكي – حتى أمراضنا نعتناها بالذكية – استطاع هذا الفيروس بذكائه الحاد الفطن أن يجبر كل سكان الأرض قاطبة على البقاء في منازلهم وترهيبهم وتخويفهم فتمكن من اغلاق الدول وتقوقعها على نفسها واغلاق حدودها مع جيرانها، وتمكن من اغلاق السماوات المفتوحة والاراضين السالكة، تمكن من اغلاق أبواب الأقارب والجيران عن بعضهم بل حتى أبواب الله في الأرض أغلقت فكعبته وجوامعه التي يعبد فيها أغلقت واكتفت بترديد اسم الله عاليا يدوي في السماوات، تمكن هذا الفيروس الضعيف من ارجاع الانسان الى ذاته والى نفسه فارضا عليه عزلة تذكره بما سيؤول اليه في يوم من الأيام.أيام من العزلة بدأت بإصابة أول ضحية لفيروس كرونا في الصين ولا نعلم كم من الضحايا ولا من الأيام تبقت كي تنقضي هذه العزلة الاجبارية التي أجبرت العالم على التقوقع على نفسه.أيام من العزلة غيرت وجه البشرية وجعلتها تعيد الكثير من حساباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية ولا نعلم ما الذي يمكن أن يجنيه ويخسره العالم من هذه التجربة التي غيرت وجه الكرة الأرضية عما كان عليه في السابق.أيام من العزلة حدت بالبعض الى اطلاق مسمى “الكورونية” عليها كحركة سياسية واقتصادية واجتماعية حالها حال الكثير من الحركات التي نشأت في العالم كالماركسية والشيوعية والرأسمالية وغيرها من المصطلحات التي تعبر عن التغيير الذي يحدث في العالم جراء أحداث معينة، فالكورونية وما تبعها من تداعيات على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية دفعت العالم الى إعادة التفكير في الأفكار التي يتبناها والسبل التي يدار بها العالم والعلاقة بين القوى المختلفة فيما بين بعضها البعض.أيام من العزلة أجبرت العالم على تعديل بعض المفاهيم السياسية والتأقلم مع كثير من العادات الاجتماعية وتبنى عديد من الممارسات الاقتصادية وفتح أبواب تحفيزية للشباب والاختراع والابتكار والانكفاء على الداخل والابتعاد عن الخارج والعودة الى المحلي والبعد عن العالمي وفهم أعمق للواقع والبعد عن الخيال الخادع والعيش في سلام وأمان واطمئنان داخلي.أيام من العزلة ساهمت في تعميق الالتحام بين الناس بعضهم ببعض وتذكيرهم بأوطانهم ووجوب خدمة الناس والمجتمع في أشد حالات احتياجه واحتياجهم له، أيام لم يشهدها العالم حتى في أفضل حالات صفاءه وسلامه.أيام لا نتمنى أن تطول أكثر من ذلك، لكن أن يبقى أثرها للابد ليسعد الانسان بأخيه وبوطنه ومجتمعه وعالمه، أيام من العزلة كفيلة بتعليم العالم والانسان دروس في التأمل والتفكر في الكون وخالقه وفي الانسان وأرضه ليستفيد منها دروسا تنفعه يوم أن تنقشع هذه الغمة ويرتفع هذا الوباء.                                                                     منشور بجريدة عمان                                                                                                  https://www.omandaily.om/?p=781792



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع