التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بحثا عن الخلود



من عجب هذه الدنيا أن الإنسان فيها موقن بأنه غير خالد، وأن مآله يومًا إلى الفناء والموت، ولكنه مع ذلك يبحث عن ترياق الخلود، فحبه للحياة وملذاتها يدفعانه إلى البحث عما يطيل له أيامها، وقد تكون هذه غريزة بشرية غرسها الله في البشر منذ خلقهم فأبو البشر جميعًا وإنسان الأرض الأول أبونا آدم -عليه السلام- لم يمكث فترة طويلة إلا وبحث عما يخلده في هذه الأرض فصدق بذلك وعد إبليس بالخلود إن هو أكل من شجرة الخلد التي لم تكن سوى شجرة حرَّمها الله على آدم وزوجه لاختبارهما.
بحث الإنسان عن الخلود سطره فيما كتب ودون وما ترك من أثر، فأسطورة أخيل مثلا تحكي لنا قصة تعميد أمه وغمسها له في نهر الخلود كي يحيا خالدًا أبد الدهر لكن الأسطورة تشير إلى أن سهما أصاب عقب أخيل غير المغمسة بالماء فقتله، كذلك أسطورة جلجامش التي تتحدث عن بحثه عن الخلود بعد وفاة أقرب أصدقائه أنكيدو، فهام في البرية بحثًا عما يخلده حتى وصل إلى أن عشبًا سحريًا تحت البحر يمكن أن يرجع له الشباب فيقرر الغوص حتى يجده لكن أفعى سبقته إلى أكل تلك العشبة فضاع أمله في الخلود. كما حاول فراعنة مصر القدماء تخليد أجسادهم بتحنيطها بمواد لم تعرف إلى اليوم مركباتها كي يضمنوا لأنفسهم الخلود حتى، وإن كان خلود الجسم لا خلود الروح، وبنوا لأنفسهم توابيت وأهرامًا تخلد أجساهم وأسماءهم. سعي الإنسان للبحث عن الخلود مستمر، وقد يكون لتطور العلوم على كافة أصعدتها وعلوم الطب البشري تحديدًا سببًا في إغراء وإغواء الإنسان لتعميق بحثه عن الخلود الأبدي، وتمسكه بالحياة حتى آخر رمق فيها، فهو يلجأ إلى الطبيب المعالج لإطالة عمره، وشفائه من أمراضه، وأوجاعه التي تؤذن بقرب رحيله، وهو مستعد لدفع كل ما يملك من مال كي يحيا لدقيقة إضافية في هذه الحياة أو أن يحنط نفسه كما قرأت مرة عن ثلة من أغنياء الغرب بوضع أجسادهم في سائل النشادر عند موتهم على أمل أن يصل الطب في يوم من الأيام إلى إعادتهم إلى الحياة بشكل أكثر حيويةً وشبابًا، وهذا يشابه ذات الجنون الذي وصل إليه العلم من إمكانية عمل نسخةٍ بشريةٍ مطابقةٍ للصورة الأصلية، وهو ما عرف باسم الاستنساخ. السعي للخلود والبحث عنه لا يقتصر على البحث عن خلود الجسد، وعدم فنائه فالإنسان موقن بأنه لن يبقى مخلدا أبد الآبدين حتى مع قرارة نفسه من أنه سيعيش حتى لا يستطيع المشي إلا بكرسي متحرك، وسيعيش حتى تخذله ذاكرته عن تذكر أصغر أبنائه، ولكن هنالك كثيرا من الناس ينشدون الخلود بطريقتهم الخاصة، فمنهم من يكتب حتى يمل من الكتابة طمعًا في تخليد اسمه على كتب تخلد اسمه وشخصه ويبقى هو في ذاكرة الخالدين الذين يعيشون في كل مكان وزمان يسمع بهم الناس ويقرأون كتبهم، ومنهم الشعراء القارضون لشعر الخلود الذي يبقى محفوظا في صدور الناس وقراطيسهم تتردد أبيات شعرهم مع كل جيل ينبت في هذه الأرض ومنهم من يخلد نفسه باختراعات واكتشافات يبقى أثرها وفائدتها تعم العالمين جيل بعد جيل، وآخرون انتهجوا منهج تشييد الصروح والتطاول في التعمير والبناء كي يخلدوا أنفسهم بما شيدوه من تلك الصروح يقينا منهم أن ما تركوه من أثر هو ما سيبقى أما الجسد فسبيله الى الزوال وهذا ما اقتنع به جلجامش وآمن به أخيرًا من أن السور العظيم الذي بناه حول مدينته أورك هو ما سيخلد ذاكره إلى الأبد وليس بحثه عن الخلود الذي لن يوفق الإنسان في الحصول عليه مهما بذل وفعل فهو من تراب وإلى التراب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع