التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أبيض و أسود




افتقدت المتفائلين في هذه الحياة، جل من التقي بهم هم من فئة الأسود التي ترى الدنيا برمتها سوداء كالحة وأن الحياة ليس فيها ما يدعو الى التفاؤل فكل ما يحيط بك هو ظلام دامس بدءا من اختفاء البسمة من ثغر الطفل وانتهاء بالحروب والمجازر التي ترتكب في أرجاء المعمورة وكل هذا كفيل بتحويل حياة من فكر في الفرح الى حزن وترح فالحياة ليس فيها سوى الأسود.
جالست وخالطت الكثيرين ممن ينتقدون كل شيء في الكون هم غير راضين عن وزنهم الزائد ولا عن وضعهم المالي وغير مقتنعين بزوجاتهم وأولادهم ويعانون مشاكل صحية يتذمرون منها كل يوم، لا تعجبهم خدمات الحكومة فهي دائما ناقصة وغير مكتملة وتعاني من بيروقراطية زائدة، يشتكون من الزحام اليومي الذي بات روتينا وجزءا من حياتهم الصباحية، لا يتلفظون بـ»شكرا وأحسنت» لأحد لأن لا أحد يستحق الشكر والتقدير سوى خالق الكون فقط، اعتادوا التذمر والشكوى بسبب وغير سبب هم متجهمون ومكتئبون في أحسن حالاتهم لا ترى لهم ابتسامة ولا تسمع لهم ضحكة وان تبسم فجأة أو ضحك عاد الى تجهمه فاستغفر الله راجيا أن لا يحدث مكروه لأحد بسبب ابتسامته.
هؤلاء الذين خلعوا ثوب البياض وتوشحوا بالسواد، تراهم يركزون على البقع السوداء من الحياة ويتركون النور، يعممون الأخطاء ويضخمونها ويحملونها أكثر مما تحتمل، يتفاعلون من الحدث السيئ ويشاركون فيه بفاعلية ويلزمون الصمت مع الإيجابية فلسانهم لا ينطق إلا بالمناقص ولا يتحدث إلا بالسلبية والنقد الحاد لكل شيء في الحياة.
هؤلاء الذين لا يرون من طيف الألوان إلا أسودها لا يؤثرون على أنفسهم فقط بل تمتد عدواهم لتصل الى من يعيش معهم أو يستمع اليهم فيمكن أن تسري عدواهم الى الآخرين فتجعلهم يصابون بأمراض نفسية وعصبية كما تقول بعض الدراسات العلمية التي أشارت الى أن المتشائم يعيش حياة أقصر من المتفائل الذي يصبح أكثر عرضة للإصابة بكثير من الأمراض المصاحبة لتشاؤمه، وفي دراسة طبية روسية أجريت على كثير من النساء أظهرت أن المرأة المتفائلة يقل احتمال إصابتها بمرض السكري وارتفاع ضغط الدم والكولسترول أو الكآبة على عكس نظيرتها التي قد تصاب بمعظم هذه الأمراض مما يؤدي إلى الوفاة.
ترى ما الذي جعل الألوان باستثناء الأسود وقليل من الأبيض تختفي من حياتنا ولماذا بتنا لا نلبس الحياة سوى الأسود ولا نرى الكون بألوانه الزاهية البراقة التي خلقها الله لنا ولا نستطيع أن نتبسم في وجه الحياة ولا أن نستمتع بها؛ هل لأن نمط الحياة اللاهث الذي نعيشه فرض علينا الكثير من هذه السوداوية أم أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والحروب والمجاعات والوفيات والتشرد والتشرذم هي من قادتنا الى هذه النتيجة أم أن التنشئة التي تربينا عليها كما يقول علماء النفس لها دور كبير في جعلنا متفائلين أو متشائمين أم أن ذواتنا لم تتعلم كيف تصبح سعيدة متفائلة تتقبل أسوأ المحن وتحولها الى منح وتتعلم أن كل وضع مهما كان سيئا هو في ذاته إيجابية يمكن أن يستفاد منها كما تقول العرب « رب ضارة نافعة».
حتى وان كانت هذه الأسباب هي دوافع وعوامل تدعو الى السوداوية وعدم الفرح والسرور إلا أن الإنسان عليه أن يقنع نفسه بضرورة عدم تأطير كل ما يراه ويمر به في لونين فقط الأسود والأبيض بل عليه أن يرى ألوان الطيف الأخرى التي تحرره من هذين اللونين، وعندما يصل الى تلك المرحلة من الاقتناع بباقي ألوان الحياة فهو سيصل الى السعادة وتقبل كل الأمور التي تجري معه حتى أكثرها إيلاما سيكون بالنسبة له مجرد محطة وتذكرة في رحلة الحياة الطويلة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع