التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تحرير الهيئة قبل السوق

تحرير الهيئة قبل السوق

      لن أخفي عليكم سعادتي بالسجال الدائر بين من أيد قرار مجلس الوزراء بتعديل قرار الهيئة العامة لحماية المستهلك بحظر رفع أسعار 23 سلعة فقط وترك باقي السلع بدون رقابة، وبين من عارضه وشجبه وندد به وطالب بإلغائه مستخدما في ذلك كل الوسائل الممكنة لرفع الصوت والمجاهرة بذلك. ذلك بأن هذا السجال أظهر بأننا في الطريق الصحيح باتجاه تأسيس الدولة أي جعلها دولة مؤسسات بمعنى أن الدولة تتحول إلى مؤسسة من المؤسسات تنفصل سلطتها عن شخص الحاكم وتكتسب هذه السلطة طابع قانوني لا شخصي.
مما أثلج صدري في هذا السجال أن الناس لم تقف موقف المتفرج من هذا القرار باعتباره قرار سيادي صادر من مجلس له من السلطة التشريعية والرقابية ما يؤهله ليكون نافذا على الجميع ويجب أن ينفذ بدون نقاش أو جدال، فقد شهدت ساحات وسائل التواصل الاجتماعي كثيرا من الكتابات والتعليقات والنقاشات والرسومات، حتى وصل الأمر ببعض ذوي القانون والاختصاص لدراسة التظلم من هذا القرار ورفعه إلى الجهات القضائية للحكم والبت في قانونيته من عدمه باعتبار أن الهيئة ورئيسها هما المناط بهما إصدار القوانين والتشريعات. وهذا ما يعطي بعض المؤشرات بأننا في الطريق الصحيح بأن نكون دولة مؤسسية لا غلبة فيها لطرف دون آخر.


في فبراير من العام 2011 صدر المرسوم السلطاني بإنشاء الهيئة العامة لحماية المستهلك، ولعلنا جميعا يذكر الظروف التي صاحبت إنشاء الهيئة في ذلك العام والسبب الحقيقي لولادتها من رحم الاعتصامات التي قامت في ذلك العام مطالبة بحماية كافة حقوق الوطن والمواطن بما فيها حقه في حمايته من جشع التجار وغشهم التجاري.
مما جاء في نظام الهيئة وأهدافها التي انشأت من أجلها – كما جاء في موقعها الالكتروني- العمل على حماية المستهلك من تقلبات الأسعار، ومراقبة أسعار السلع والخدمات في الأسواق والحد من ارتفاعها، إضافة إلى مكافحة الغش التجاري ومحاربة الاحتكار وغيرها من الأهداف التي يمكن الرجوع إليها تفصيلا في الموقع المذكور.
المرسوم السلطاني عند صدوره أبقى مرجعية الهيئة إلى مجلس الوزراء وهو الأمر الذي أبقى يد الهيئة مغلولة بعض الشيء من حيث أن مرجعيتها أصبحت بيد المجلس وأنها يجب أن تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وأن سلطتها محدودة على كثير من القرارات كما هو حاصل في هذا القرار الأخير.
في مقال لي منشور قبل عامين أو ثلاثة عنونته " من يراقب الحكومة" تطرقت فيه إلى أن الحكومة ذاتها يجب أن تراقب – إن أردنا لدولة المؤسسات أن تقوم – ومن يقوم برقابة الحكومة هي ليست جهة حكومية مثلها أو تخضع لسلطتها أو لسطانها وإنما من يقوم على ذلك جهات أخرى مثل المجالس التشريعية والقضائية ومؤسسات المجتمع المدني، ولعل الهيئة خير مثال على ذلك من حيث أنها يجب أن تقوم بعملها بمعزل عن الحكومة وأن تقوم بدور المراقب على السوق وتجاره وسلعه بدون أي تدخل من الحكومة ووزرائها وتجارها.
ليست الهيئة العامة لحماية المستهلك هي وحدها من يجب أن يتمتع بالاستقلالية التامة عن الحكومة ويكون لها الشخصية الاعتبارية بها، فهنالك المؤسسة القضائية التي ولله الحمد أصبحت تتمتع بهذه الصفة الاعتبارية ولا تتأثر بقرارات الحكومة، وهنالك المؤسسة الإعلامية التي هي أيضا يجب أن تتمتع بالصفة الاعتبارية وأن لا يكون للحكومة أية سلطة عليها كي تلعب دورها الصحيح في نقل الصورة الحقيقة عما يجري في المجتمع وتستطيع أن تراقب المجتمع وتراقب الحكومة بكل صدق وشفافية.
نحن بحاجة اليوم - كما قال وزير التجارة والصناعة- إلى تحرير السوق من القيود المفروضة عليه وجعله سوقا مفتوحا خاليا من الاحتكار والغش، ولكن قبل تحرير السوق نحن بحاجة إلى تحرير بعض المؤسسات من ربقة مجلس الوزراء كي تمارس دورها الحقيقي في دولة المؤسسات.

عبدالله الشعيلي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع