التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حب الحياة والموت



          كان يحدثني عن مشروعه الطموح الذي يعتزم القيام به والخطوات التي قام بها من أجل الظفر بذلك المشروع. استرساله في الحديث عن مشروعه جعلني أدقق في كلماته التي اختارها للتعبير عن المستقبل الزاهر الذي ينتظره هو ومشروعه وكيف سيعود هذا المشروع عليه وعلى هذا الوطن بالخير مستقبلا.
حديثه عن المستقبل جعل عيناي تتسعان وابتسامة ترتسم على وجهي من فرط العجب بأسلوبه الشيق في السرد ونظرته للحياة وهو قد جاوز السبعين من العمر ويقف على مشارف الثمانين ومشيته ربما تكون السلحفاة أسرع منه في الوصول الى وجهتها، فقلت في نفسي "كيف لهذا العجوز أن يفكر في المستقبل وهو كما نقول نحن رجله الأولى في الدنيا والأخرى في القبر!!"
ذكرني عمره بعمر الحائزة على جائزة نوبل للآداب هذا العام وهي الكندية أليس مونرو التي تبلغ من العمر اثنين وثمانين عاما، وإصرارها على مواصلة الكتابة حتى آخر رمق في حياتها لأنها تعتبر أن ما تقوم به من كتابة هو رسالة منها للعالم أجمع وأن العمر لا يعني لها شيئا طالما أنها استطاعت مواصلة مشروعها المستقبلي الذي تكلل بفوزها بأعلى جائزة أدبية في العالم.


عقب لقائه بيوم ذهبت لصلاة الجمعة وابتداء خطيب الجمعة خطبته بتذكيرنا بضرورة الإكثار من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات وأن نوقن بأن الدنيا ليست دار مقام وإننا راحلون عنها ربما حتى قبل أن يتم هو خطبته وصلاته، واسترسل ذلك الإمام في ذكر محامد الموت وعدم الاغترار بالدنيا وزينتها ولهوها ولعبها والزهد فيها وأنها دار ممر لا دار مقر ويجب علينا تطليقها وتركها لمن لم يرد ثواب الله والآخرة.
سرحت خلال تلك الخطبة للمقارنة بين الخطابين، خطاب ذلك الرجل الثمانيني الغير مسلم ونظرته للحياة والمستقبل، وكفاح الحائزة على جائزة نوبل التي ترشحت من قبل للفوز بالجائزة لثلاث عشرة وفازت بها أخيرا هذا العام، وبين خطابنا نحن المسلمين اللذين بتنا نحتقر الحياة ونتمنى الموت بأسرع لحظة كي نظفر بجنان الخلد والحور العين.
من ينظر في حالنا نحن أمة المسلمين يرى أننا صدقنا مقال بعض المتشائمين من الدنيا ومن الحياة التي خلقها الله لنا وأعفينا أنفسنا من مسؤولية إعمار هذه الأرض التي استخلفنا الله فيها وتركنا هذه المهمة للآخر الذي أيقن أن عمارة الحياة الآخرة لا يكون إلا بعمارة الدنيا ولو لا هذه الدنيا لما كانت الآخرة ثوابا وجزاء على ما يقدمه المرء من أعمال. وكنتيجة لهذا المعتقد والإيمان العميق منا بضرورة تطليق الدنيا وعدم الاغترار بزينتها تأخرنا عن ركب الحضارة والتقدم وبات الفرد منا يقتل نفسه كي يقتل أخاه يقينا منه بأنه سوف يذهب إلى الجنة ومن قتله سيذهب إلى الجحيم.
نحن بحاجة إلى تغيير خطابنا الموجه إلى أنفسنا وأن لا نترك ذلك لفئة صغيرة في مجتمع كبير كي تسيًرنا وفق هواها وكما تريد مستغلة بعض المنابر وأن نستبدل نبرتنا التشاؤمية بالحياة بنبرة ايجابية محبة لها ومحبة للخير وأن لا نقف صامتين مستكينين في انتظار الموت بل يجب أن نقبل على الحياة ونعمرها كما أمرنا رسولنا الكريم عندما أوصانا بغرس فسيلتنا قبل قيام ساعتنا " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".

منشور بجريدة عمان على الرابط 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع