التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قول تم


يقف خلف مكتبه المحصن بأبواب زجاجية تمكنه من رؤية الطابور الذي وقف بانتظاره طمعا وطلبا لاستثناء (منه)، فكلمته كفيلة بأن يتم الافراج عن طلبك وموضوعك إن كانت إيجابا أو تكون سببا لبقائك في ضيافته ليوم أو يومين آخرين. لا يكلف في كثير من الأحيان رفع عينيه الى من يكلمه، فهو مهتم بالورقة أكثر من صاحبها، لا سيما وأن الكثير من الوجوه متشابهة ومتكررة، فهو يهتم فقط بتوزيع الاستثناءات وفق ما يشاء هو وبأمر منه.
مشهد لا استطيع وصفه بأقل من كلمة " درامي" فأنا وسط ذلك الطابور الطويل الذي ينتظر استثناء (منه) وكلي أمل ورجاء أن لا أعود الى ذلك المكان مرة أخرى وأن لا أحتاج الى تكبد مشقة الترحال الطويل الى تلك الجهة ولا إلى انتظار الطابور الممل ليأتي دورك أولا في استقبال معاملتك ومن ثم طابور آخر لكي تتاح لك فرصة شرح ظرفك له يمكن بعدها أن تحصل على استثنائه إن رقت له ورق هو لحالك وشكواك وأنينك.
مشهد لا يمكن أن تراه إلا هنا معنا في بلادنا وما جاورها من البلاد التي ما زالت تعيش الى اليوم على كلمة " قول تمً" لإنهاء الكثير من المعاملات وحل الخلافات والتوسط في كثير من الامور والتوصل الى تسوية للكثير من المسائل العالقة وغير العالقة بين الطرفين.
مشهد شعب لا يزال يطمح أن يحل المسؤول أو الموظف الأعلى موضوعه بكلمة فصل بينه وبين الآخر، أن يجد له استثناء أو مخرجا أو طريقا آخر يسلكه غير طريق القانون الذي صار يئن ويشتكي من كثرة ما استثني وتجوهل ولم يعمل به وصار مركونا في أدراج كثير ممن ملك قرارا لأنه صار هو القانون المتحرك الذي لا يحتاج الى قانون وضعه انسان بشري من قبله.
أحد خبراء الموارد البشرية فسر حالة المجتمع هذه وإدمانه على الاستثناءات في كل صغيرة وكبيرة ابتداء من طالب المدرسة وحتى كبير المستثمرين بأنها نابعة من ثقافة جيل عاش وتربى عليها مجتمعنا القبلي ولا يمكن التخلص منها بسهولة فهي متغلغلة في جذور وأعماق كل منا. تعودنا أن لا ننجز معاملة من أول زيارة لأي جهة وإن حصل ذلك فتلك الجهة قد ولجت الى عالم غير عالمنا الذي نحياه، واستخدمت تقنيات حديثة لا يمكن أن نراها الا في روايات الخيال العلمي أو في السينما، وهذه الجهة تستحق وبكل جدارة أن تحصل على كل جوائز العالم التقني والموارد البشرية وأن تدخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية لأنها قلصت أرقام زيارتنا لها.
ترى لماذا يصر هو وغيره على لعب هذه الادوار؟ ولماذا لا تزال تلك الكلمة السحرية ( قول تمً) لها وقع كبير في مؤسساتنا الحكومية وما شابهها؟ ولماذا نحن أنفسنا لا نقبل بما يقوله لنا موظف بسيط ونلجأ لمن هو أعلى منه فالأعلى فالأكثر علوا لتمرير موضوعاتنا؟ ولماذا بتنا لا نحترم قانونا ودستورا سن لتسيير أمور حياتنا وتنظيمها؟ ولماذا يتقاطر الناس على مكاتب الآخرين وينتظرونهم أمام الأبواب والنوافذ والسيارات ويترصدون لهم في الشوارع والأماكن العامة طمعا في لفتة منه وأن يمن عليه باستثناء كي يغرقه الآخر بسيل من المديح والدعاء له ولأسرته وقبيلته وعشيرته وكل من يمت له بصلة؟ ولماذا بتنا نتفاخر بأن موضوعاتنا لم تمر بطريقة اعتيادية وإنما هي باستثناء خاص جدا (منه)، فهي لا تشبه باقي موضوعات خلق الله وإنما جاءت بعد معاناة طويلة وشرح للظروف وكذب وتدليس وحصول على شهادات يعلم الله مصدرها؟ ولماذا لا يمر موضوع أحدهم على كل تلك الاستثناءات التي تمر بها البشرية وتحصل على كل ما ترغب فيه بكلمة سحرية هاتفية قال فيها صاحبها لمحدثه " قول تمً".
جاء دوري الآن لشرح ظرفي وحاجتي لاستثنائه، لم يرفع طرفه، نظر في ورقتي وأجاب: ما يصير، لازم ترجع باكر. حتى لو استثنيتك أنا ..ما راح تخلص اليوم.
أنهى كلامه وأشار لمن خلفي بالتقدم. نسيت في تلك اللحظة أن أقول له " قول تمً " علها تكون شفيعا لي، ولكنني رجعت إلى نفسي لأذكر نفسي بأنني ما زلت لا أعرف أحدا في تلك الجهة التي قصدتها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع