التخطي إلى المحتوى الرئيسي

سحابة صيف


لطالما كان المطر ملهما للشعراء والكتاب والفنانين، يستوحون منه كثيرا من إبداعاتهم وكتاباتهم. وفي ثراثنا العربي بات المطر رمزا للخصب الذي يأتي بعد المحل والجدب وتغنى به كثير من الشعراء وشبهوه بكثير من الاوصاف التي لا نجد غزارتها في أي أدب آخر باستثناء الادب العربي الذي يحفل بكثير من الاوصاف والنعوت للمطر وما يصحبه من برق ورعد وسحاب وألوان زاهية تعقب سقوطه وانهماره.
سمى العرب قديما المطر بأسماء كثيرة، ربما من فقدهم واشتياقهم له، ومن حبهم وإجلالهم له فهو الغيث والهتان والوبل والعارض والقطر والرهام والسح والوسم والودق والرذاذ والديمة والسيل..الخ، حتى السحاب الذي يبشر بقدوم المطر أطلقوا عليه كثير من الاسماء لانه هو المبشر بقدوم الغيث وخصب الحياة وتكاثر الزرع وإحياء الارض بعد موتها، وجاءت أسماء السحاب في كثير منها معبرة عن البشر والسرور والانتظار والترقب مثل الغمام والدجن والوكاف والجهام والديم.
وكثير من شعراء العربية قد تغزلوا في المطر وأبدوا اشتياقهم له في أشعارهم ابتداء من امرؤ القيس الذي يسترسل في وصف المطر وما خلفه من طوفان ماء غمر الدنيا كلها ويبتدىء إحدى قصائده بالبرق المبشر بقدوم المطر فيقول ..
أصاح ترى برقاً أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل
يضيء سناه، أو مصابيح راهب أمال السليط بالذبال المفتل
فأضحى يسح الماء حول كنيفه يكب على الأذقان دوح الكنهبل
وحتى شعراء العصر الحديث لم يخل شعرهم من وصف للمطر والتغزل في محبوباتهم وتشبههن بالغيث والمطر المنهمل من أمثال نزار قباني الذي يقول في قصيدة له ..
أخاف أن تمطر الدنيا ولست معي فمنذ رحت وعندي عقدة المطر
كان الشتاء يغطيني بمعطفه فلا أفكر في برد ولا ضجر
وكانت الريح تعوي خلف نافذتي فتهمسين: تمسك ها هو شعري
كما تغنى بدر شاكر السياب في انشودته عن المطر قال فيها ..
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر ​​أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر
عيناكِ حين تبسمانِ تُورقُ الكروم ​​وترقصُ الأضواءُ.. كالأقمارِ في نهر
يرجُّهُ المجذافُ وَهْناً ساعةَ السحر.. ​​كأنّما تنبُضُ في غوريهما النجوم
استحضرت هذه الاشعار والقصائد من هذه الايام الجميلة التي غمرنا المولى عز وجل فيها بفضله ومنته بأن أنعم علينا وعلى بلادنا بأمطار خير أحيت الارض وغسلت القلوب والنفوس ورسمت البهجة والسعادة على وجوه أهل هذه الارض الطيبة وأعادت الينا روح الحياة الجميلة وذكرتنا بطفولتنا التي كنا نحتفي فيها بالمطر وقدومه، لنخرج إلى الصحاري والقفار نستمتع بالمطر ورائحته ونشبع أعيننا وأفئدتنا من منظر مجرى المياه والاودية في أرضنا ونشهد على خصب الارض واكتسائها بالعشب الاخضر بعد أن كانت قاحلة جرداء.
سحابة الصيف هذه جلبت معها كثير من الفرح والبهجة وقليل من الاحزان لمن فارق عزيز له بسبب عدم استطاعته تصديق إن للماء قوة تعادل قوة الحياة والموت وإننا لا بد أن لا نبرح مكاننا إن كانت الارض والطرق لا تزال غير سالكة وغير مهيئة لاستقبال فرحة المطر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع