التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هل أعتذر


 
 في أحد شوارع القاهرة أراد رجل أن يعتذر لزوجته عما بدر منه من خطأ فقام بتعليق لوحة كبيرة بحجم الجدار عبر فيها عن أسفه واعتذاره لزوجته واعدا إياها بعدم تكرار ما فعله مرة أخرى. بقيت هذه اللوحة معلقة أمام المارة الكل ينظر اليها والكل ينظر اليها من منظوره الخاص، منهم من قال بأن ما قام به هذا الرجل هو شىء غير عادي ولا يقوم به رجل شرقي، ومنهم من حبذ فكرة الاعتذار هذه واعتبرها رغم غرابتها الا أنه يجب احترام هذا الرجل وتقديره لانهاعترف بخطأه أمام الملأ وقرر مصالحة زوجته.

بقيت لوحة هذا الرجل معلقة على الجدار حتى قبلت زوجته اعتذاره.

مما قرأت من التعليقات حول ثقافة الاعتذار للطرف الآخر، أيا كان هذا الطرف، خصما أم عشيرا، زوجة أو صديقا، رجلا أو امرأة أن ما يمنع حصول الاعتذار بين الطرفين هي نفسية كل طرف والخلفية التاريخية والثقافية التي أتى منها كل طرف والبيئة التي عاش فيها طفولته، اضافة الى الرصيد العاطفي والتنشئة الاجتماعية وغيرها من العوامل الاسرية التي تؤثر على تنشئة وتربية كل طرف.

ولو أرادنا أن نطبق هذا الكلام على الرجل أو المرأة الذي تربى في مجتعاتشرقية صحراوية قاسية لوجدنا أن هذه التربيةتركت أثرها متمثلة في خشونة وقساوة الحياة الطبيعية، وأن هذه التربية القاسية لا تتيح للفرد وإن رغب في الاعتذار أن يبادر الى ذلك والاعتراف بالخطأ، بل أن هؤلا الافراد في تلك المجتمعات يبادرون الى التبرير والقاء اللوم ونفي الحقائق والمراوغة والصاق التهمة بالطرف الآخر.

وعلى العكس من هذا تماما، فما نراه في المجتمعات الغربية التي دائما ما يحلو لنا تسميتها ( بالمتمدنة أو المتطورة) هي المبادرة بالاعتذار حتى على أتفه الاسباب، فلو أن كتفك لمست كتفه في مكان عام لبادر هو الى الاعتذار منك حتى لو كنت أنت المخطئ، ولو أن هفوة أو خطأ أو مضايقة وقعت منه عليك لجاء الى بابك معتذرا عما بدر منه حتى وإن كان ما قام به لا يستدعي الاعتذار والمسامحة.

لا أنفي في كلامي هذا التراث العربي القائم على المسامحة والاعتذار، ولا أهدم

أيضا قيم الدين السمحة وخلق الرسول الكريم التي حضنا فيها على المسامحة والتصرف مع الآخر بكل ود واحترام وقبول اعتذاره حتى وإن أخطأ، وارجاعه الى حضن الجماعة.ولا أتحدث أيضا عن أن الآخر في الطرف القصي من العالم هو من يسامح فقط وغيره لا. ولكن ما شاع بيننا نحن عربا ومسلمين من الغاء لثقافة الاعتراف بالخطأ أولا والاعتذار عن ذلك الخطأ ثانيا سواء كنا أفراد أو جماعات أو رعايا أو مسؤولين وتمسكنا بمبدأ أنني أنا على صح ومن خالفني فهو المخطىء وليتحمل جزاء مخالفته لي.

هنالك نماذج كثيرة نمر بها في حياتنا اليومية تبين لنا أننا لا نؤمن ولا نسلم بثقافة الاعتراف بالذنب والاعتذار عن ذلك الذنب، وإن قام شخص ما في يوم بالاعتراف بتقصيره أو خطأه وفيما بعد اعتذر عنه، فإن الجميع يكيلون اليه سيل من الاتهامات بالتقصير والاهمال وعدم الانتباه وعدم جدارته بأن يكون في مكانه وإنه أراق حياء وجهه مقابل اعتذاره لانه لا ينبغي على الرجل الشرقي أن يعتذر.

ذلك الرجل في شوارع القاهرة واتته الجرأة ليقولها على الملاء وعلى أعين الناس بأنه يعتذر لزوجته عما بدر منه تجاهها، ويبقى على كل من لم يرض عنه شخص أو أمه بأكملها أن ينزل الى الشارع معتذرا منهم عما بدر منه وما سببه لهم من متاعب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع