التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أنا المدير




 

   بعد أن انتقلت الى قسم آخر غير القسم الذي كنت أعمل به، وتربعت على كرسي المدير الجديد الوثير جاء الموظفون للتهنئة الذين نشأوا وترعروا في ذلك القسم وأفنوا زهرة ونخلة ورحيق عمرهم في ذلك السرداب – كما قال أحدهم مرة – بدأت مراسم تقديم الولاء والطاعة للمدير الجديد والتمنيات له ولهم بطيب الاقامة وحسن العشرة في السراء والضراء.
في أول اجتماع عقدته مع الموظفين الجدد لمعرفة خبايا وتفاصيل وأسرار العمل الذي يقومون به، كنت انظر الى عملهم اليومي الروتيني بمنظور غير الذي يرونه به، فهم قد أصبحوا لا يرون شيئا يذكر من حسنات أو سيئات هذا العمل أو ذاك بعد أن لبسوا وتلبسوا بعملهم اليومي - وهذا ما أعتقده يحدث في كل عمل حكومي أو حتى عمل خاص ما لم يكن التغيير والتحديث هي السمة التي تميز بيئة العمل- فجاءت كل ملاحظة أبديها أو أي تعليق أقوله بأنه هو الكلام الصحيح وأنه هو فصل الخطاب وسيتم من على الفور تطبيق ما قال وأمر به المدير.
ما توصلت اليه من نتيجة لدى هؤلا الموظفين وغيرهم ممن يعمل لدى الحكومة بأن الموظف البسيط ليست له أية كلمة ولا يمكنه اقتراح أو عمل شىء ما في مجال عمله ما لم مبرمجا له وبالتالي يتبرمج هو على ذلك العمل، وتأتي هذه البرمجة من رب عمله الاعلى منه أي المدير أو الرئيس فالكل يشتغل بأمر وتوجيهات الرئيس الاعلى أيا كانت هذه البرمجة صحيحة أم خاطئة تحقق الهدف أم تحيد عنه، فالموظف البسيط كما يقول المثل الشعبي " عبد المأمور" كما يقال له يفعل وكما يوجه يفعل ولكن بشرط أن لا يحيد في التفكير عما ُرسم له ولا يحاول أن ُيعمل عقله أو لبه في ابتكار ما يمكن أن يسهل على الآخرين من بني البشر حياتهم.
هذه الفوقيه في العمل انتشرت في كل عالمنا العربي، الفكر فكر المدير، العقل عقل المدير، وعلى الجميع الالتزام بذلك وعدم الحيد عنه، ومن سولت له نفسه تغيير ما هو قائم فسوف يجد نفسه هو من تغيًر الى مكان آخر وسيكون حاله حال الكثيرين ممن حاولوا التغيير في حياتهم العملية ووجدوا أنفسهم مركونين في كراسي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل من مكانها.
بذلت جهودا كبيرة لاقناع موظفي الجدد بأن " حرية التعبير" مكفولة للجميع بنص الدستور والكتاب والشرائع السماوية وأن ما يقولونه من اقتراح أو نقد لوضع قائم سوف لن يخرج من اطار جدران المكتب ولن يعرف عنه الا نحن وسوف نتدارسه ونحاول تطبيقه ونجدد فيه و.. و.. و ...، الا أن كل ما قلت ذهب مع الريح كما تقول رواية مارغريت ميتشيل ووجدت نفسي بأنني اللاعب الرئيس في ذلك الملعب فقررت عندها أن أكون أنا المدير ويكون كل ما أقوله وأتفوه به هو ما ينفذ حتى بدون أن أقصد.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع