التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بين التدوين والتغريد



 قبل عشر سنوات وخلال فورة التدوين الرقمي أو ما يعرف

بـ«البلوج» أو «البلوجر» العائدة إلى المدون ذاته صاحب التدوينة، أنشأت مدونتي الإلكترونية التابعة لعملاق الرقميات جوجل، وأسميتها باسمي كي تقترن بي واقترن بها، ولا أخفي سرًا إن قلت إنني ما قمت بإنشاء هذه المدونة إلا للحاق بـ«عصر التدوين» الذي كان رائجًا في ذلك العقد الماضي، ولأقدم نفسي للآخرين بأنني مدون صاحب تدوينة رقمية تضم بين أقسامها مختلف المقالات والأعمدة التي أقوم بنشرها في الصحافة.

عشت العصر الذهبي للتدوين الإلكتروني وانغمست في تفاصيله، وتابعت ما كان يجري على الساحة الإلكترونية من سجالات على مقالات ساخنة كانت تنشر على صفحات الإنترنت في مختلف المواقع والمنصات والمنتديات ومواقع الحوار المختلفة عما كانت تُثيره تلك المقالات من تساؤلات لدى كُتابها، وردود الأفعال من القراء متعددي المشارب والآراء وبعض المراقبين لما يجري على ساحات الحوار الإلكتروني، وما زالت ذاكرتي تحتفظ ببعض من المقالات التي أحدث كُتابها جلبة وضوضاء وسلطت كتاباتهم الكثير من الضوء عليهم، كما أسهمت بعض الكتابات في تغيير وتعديل بعض من الأمور التي كانت تجري على الساحة المحلية.

في تلك الفترة بدأت بعض الأقلام والكتابات في الخروج من عباءة التدوين التقليدي والنشر الورقي في الصحف والمجلات، تحاشيًا وتفاديًا لكثير من المحاذير الرقابية ورغبة في نيل الكثير من الحرية في الكتابة والتعبير لم تكن توفرها الوسائل التقليدية حتى بمنصاتها الحديثة المتمثلة في المواقع الإلكترونية لتلك الصحف والمجلات والإذاعات والتلفزة، وربما لم يخب ظن من راهن على سطوة المدونات الإلكترونية في بسط هيمنتها على المدونات التقليدية التي بدأت شيئا فشيئا في فقدان بريقها اللامع، فسطعت الكثير من الأسماء في سماء الكتابة والتدوين حتى غدت تدويناتها عابرة للحدود ويتم تداول كتاباتها عبر أجهزة الهاتف وعلى مختلف المواقع في الإنترنت.

بانقضاء الألفية الثانية ودخول الألفية الثالثة بدأ وهج التدوين بالخفوت، وقل الاهتمام بالمدونين وتدويناتهم وكتاباتهم، ودخل العالم الرقمي في منعطف آخر بدأت كفته تميل إلى المرئي على حساب المكتوب حين أعلن عن خدمات البث المرئي للمقاطع والأفلام التي يمكن لأي شخص مشاهدتها عبر هاتفه الصغير في أي وقت وفي أي مكان وزمان، بل ويمكن لأي شخص رفع فيديوهاته التي يصورها وأفلامه التي ينتجها على المواقع ذاتها التي توفر مساحات مجانية للتخزين والاسترداد.

هنا رويدا رويدا بدأت الكثير من الجماهير في الهجرة الجماعية من التدوين المكتوب إلى التدوين المرئي المعتمد على الصوت والصورة مع تحريف كلمة تدوين «بلوج» إلى «فلوج» وتعني التدوين عبر التصوير المتحرك بالفيديو، وكما هاجرت الجماهير المسحورة بالصورة إلى منصات الفيديو هاجر معها أيضًا الكثير من مدوني القلم مع اختصار ما يكتبون، واستقطاع أفكارهم لتتناسب مع متطلبات العصر الرقمي الحديث.

بسرعة البرق تكاثرت وتوالدت منصات الفيديو وانتشرت في كافة أرجاء العالم الرقمي وتوج هذا التكاثر بميلاد جديد لمنصات التواصل الاجتماعي التي يحسب لها أنها استطاعت المزاوجة بين الكتابة والتدوين والتصوير والاستماع، ومزجت بين الكثير من الأعراف التقليدية في الكتابة وبين التصوير والتسجيل والبث الفوري لما يحدث ويحصل ساعة بساعة ولحظة بلحظة.

وقد يكون هذا تطورًا طبيعيًا سريعًا لما يحدث في العالم الافتراضي الذي لا تنتهي عجائبه لكنه يعجل بنهايات الكثير من الثوابت التي عرفتها البشرية عبر تواريخها المختلفة.

أعود إلى مدونتي القديمة وأشعر بأنني أدخل إلى بيت مهجور يكسوه العنكبوت بخيوطه التي ينسجها على جدرانه، هذه ليست مدونتي القديمة التي أعرفها، وهي ليست بيتي الذي أنام عليه وأصحو فيه وهي ليست ذلك المكان الذي كان يضج بضوضاء الناس، وحديثهم، ونقاشاتهم، واختلافاتهم.

أحمل مقالاتي إلى وسائل التواصل مستعطفًا ومستجديًا قارئًا يكرمني بـ«لايك» أو«شير» أو تعليق عما كتبت، لكنني لا أجد أذنا صاغية أو عينا واعية فالجميع مسحور ومأخوذ بحالات الأصدقاء ورحلاتهم وأكلاتهم، والكل منشغل بـ قصص مشاهير السوشيل ميديا وحركاتهم المواكبة للعصر وبتغريدات مثيرة للجدل تُعلي من شأن الشقاق وتخفض من شأن الفضيلة ولا أجد من كل هذا سوى خمسة إعجابات هي من أصدقاء مجاملين فقط. رحم الله أيام التدوين والمدونين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع