التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الخمسون




 انفرط عام من العمر كنت أتكئ عليه ليسندني من مزالق الكبر، شعيرات بيضاء نبتت في كل مكان باتت علامة واضحة على التقدم في العمر، الجسد المثقل بالكثير من متاعب الحياة لم يعد يحتمله عظم واهن. كلمات وهنهنات تسمعها بين فينة وأخرى تسمّيك مرة بالعم وأخرى بالوالد وغيرها بـ «الشايب» كلها علامات على كبر في السن بدأت صورها في الوضوح قليلا قليلا.

عتبات الأربعين كانت ملاذا ومآلا للشباب فيها كل النعم والخيرات والبركات وفيها كما قيل اكتمال العقل ورجحان الفكر وإيتاء الحكمة واكتمال الحلم وفهم المنطق وفيها بعض من رائحة الثلاثين التي هي فورة الشباب وفتوته، وقوته، وعنفوانه، وسلطانه وقبلها العشرون التي كانت انطلاقة لسباق الحياة ومضمارها الطويل.


العشرون ثم الثلاثون بعدها الأربعون وحبات العمر تبدأ في الانفراط واحدة تلو الأخرى حتى تصل إلى الخمسين التي هي بداية لعتبة كبرى وعقبة أخرى من عقبات وعتبات العمر يتغير فيها كل شيء ويتحول وكأنه بداية جديدة وميلاد جديد ينتقل فيه الإنسان من عقبة الشباب إلى عقبة الشيخوخة والكهولة ليبدأ فيها بالنزول التدريجي من قمة العمر وفورته إلى مسارات أخرى تكون أبطأ وأسهل مدفوعة بجهد سابق ساهم في تخفيف ضغوط الحياة ومتطلباتها.


ناقوس الخمسين دقّ مبكرا فاستشعرت صوته وخبرت كنهه وعرفت ماهيته وكيف سيكون الوضع عند الوصول إلى تلك العتبة، رأيته في وجوه الأحباب والأصدقاء كيف تبدلت حالهم وتغيرت صورهم وتبدلت ذواتهم وتنقهت أنفسهم، رأيت علاماته ظاهرة وباطنة على وجوه الأحبة في قمة الرأس واستدارة الوجه وتشكل الجسم والبدن ورأيت ما خفي عن النظر من تحول وتبدل في الأمزجة والأهواء والأنفس ورأيت تحول النفس وميلها إلى الدعة والسكون والابتعاد عن كثير من ماديات الحياة إلى جوهر الحياة وسرها الأزلي، رأيت البعض يركن إلى العمر ويتكئ عليه ورأيت الغير لا يلقي له بالا فهو كما يقول مجرد رقم من الأرقام في الحياة فأنت مرهون بما تفعل ولست أسيرا بأرقام الحياة.


بدأت أتأهب لبلوغ هذا الرقم مع أن المسافة التي تفصلني عنه ليست بالبعيدة لكنني بالغت في الاستعداد لهذه العتبة، أقلعت عن كثير من العادات السيئة في الأكل والشرب فالجسد الواهن قد لا يسعف في تجرع سموم زائدة عنه، عكفت على التأمل والتدبر والاختلاء والبعد عن كثير من صخب الحياة وضجيجها والتمست لنفسي ساعات للخلوة بعيدا عن الأعين كخلوة العابد في صومعته، أدمنت غذاء الروح والعقل فعكفت على القراءة والاستماع والمشاهدة والتعلم فالحياة كما أيقنت لا تقف عند حد للعلم والمعرفة والتعلم فهي من المهد إلى اللحد، اقتطعت من يومي أجزاء للمعرفة والتعلم ومجالسة من يستفاد بعلمهم لا من يضيق الصدر بجهلهم. بدأت في التطواف والمشي في مناكب الأرض وهضابها وسهولها فلا شيء يضاهي المشي والتأمل في الطبيعة ومعجزاتها وجمالها وسحرها فهي الملاذ لكل حيران وهي السكن لكل تائه هيمان.


أجدني وأنا على عتبات هذا العمر أناقض ذاتي أحيانا وأناقض فطرة الإنسان من حبه للعودة إلى الوراء إلى عمر الصغار وشقاوة الأطفال وروح الشباب كما قال مرة الشاعر فاروق جويدة كما تنسب أبيات شعر له يقول فيها:

يا أيها العمر السريع خذلتني

ووضعت أحمالا على أحمالي

خذني إلى عمر الصغار لأنني

لم أنته من ضحكة الأطفال


أجدني لا أستسيغ فكرة العودة بالعمر إلى الوراء فما كان كان وقد عشته بكل تفاصيله حلوه ومره والآن مقبل على مرحلة تكمل العقد المنتظمة حباته المتناسقة فصوصه وما سيأتي من شتاءات العمر وخريفه هي محل ترحاب واستعداد.


هذا بوح داخلي لم تكتبه اليد بل القلب من كتب حروفه فهو نابع من صدق عاطفة ونبل مشاعر علّ البعض يتفق فيها معي والبعض يخالفني فيها الرأي ويبقى الفيصل في ذلك كله كيف يرسم الإنسان خطاه وكيف يختار مصيره فكل شيء مرهون بالإنسان وإرادته.


* عبدالله بن سالم الشعيلي 

ashuily.om

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع