التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المتبسطون

 


قبل فترة بسيطة شاهدت فيلما وثائقيا عن ما يمكن ترجمته بمصطلح المتخففون أو المتبسطون أو الزهاد Minimalism وتعني هذه الكلمة وهذا المصطلح المقلون من متع الحياة الدنيا والمكتفون بالأشياء الضرورية في الحياة من دون الاسراف والتبذير باقتناء الزائد عن الحاجة.

فكرة الفيلم تمحور حول صديقين حققا أغلب أحلامهما من البيوت الواسعة والسيارات الفخمة لكنهما اكتشفا فجأة أنهما غير سعداء، وأنهما لا يحتاجان إلى كل ما يمتلكانه فيقرران التخلص من الكثير من ممتلكاتهما ويعيشان حياة البساطة المكتفية بالقليل من المتاع.

بعيدا عن الفيلم وقريبا من الواقع فنحن كبشر بطبيعتنا نميل إلى النمط الاستهلاكي في تكديس الأشياء وشراء ما لا يلزم إما انبهار بما تطرحه المصانع والشركات والمعامل من جديد في كل وقت وحين أو إرضاء لرغبات ونزوات داخلية نسكتها بالشراء والتسوق من دون التفكير في الحاجة الى ما نشتريه ولا كيفية استخدامه وأما تقليد وتشبه بما لدى الآخرين من متاع فنلجأ إلى الشراء لمجاراة أولئك الآخرين وللتشبه بهم وبما يقتنون، وكل ذلك مرده كما ذكرت بعض الدراسات النفسية لكي ” نشعر بالسعادة”.

الشعور بالسعادة كما وصفها المتبسطون الزهاد ليست في تكديس الأشياء بقدر ما هي في خوض تجارب جديدة في الحياة كتجارب السفر والترحال وتعلم مهارات وحرف وأساليب جديدة في الحياة فهي ما يعطي للحياة سعادة أكثر ويبقى أثرها أطول على عكس اللجوء إلى الشراء وتكديس الحاجات غير الضرورية في الحياة التي لا تطول فترة سعادتها طويلا.

امتد مفهوم التبسيط أو التخفف من الأشياء في الحياة الى أفكار أخرى منها فكرة تكدس الأصدقاء والمعارف في حياتنا، فيقول المتبسطون بأننا لسنا بحاجة إلى معرفة الكثير ممن حولنا ولا أن نرتبط بكثير من الصداقات حول العالم ولا الى معرفة كل من نقابلهم في الحياة أو نرتبط بهم في العمل أو نقابلهم صدفة في سفر أو حضر وإنما نكتفي بالقليل من الأصدقاء ممن يمكن الاعتماد عليهم والوثوق بهم مع اصطفاء القليل منهم وائتمانهم على كثير من الأسرار فهذا قد يكون أجدى وأنفع من الكثرة الزائدة في معرفة الكثير من الناس من دون نفع أو طائل.

الفكرة الأخرى التي امتدت اليها يد التبسيط هي في العوالم الافتراضية والسيبرانية حيث تكونت فئة من الزهاد ممن يرون أن حياتنا الحديثة باتت مليئة بالضوضاء والتشتت جراء التعرض للتقنيات الحديثة والتطبيقات والمواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من العوالم الافتراضية التي صارت مشتتة أكثر من كونها مفيدة وتعود بالنفع على صاحبها. يقول المتبسطون في هذا الاتجاه إن التخلص من مسببات التشتت يمكن أن يكون بالابتعاد عنها فهذا يجلب الكثير من السعادة بدلا من متابعة كل شيء على وسائل التواصل التي يختلط فيها الغث بالسمين والأجدى من ذلك استثمار الوقت فيما فيه منفعة من تعلم مهارات أو اكتساب معارف أخرى.

مفهوم (المينماليزم) أو التبسيط وإن كان قديما في الطرح الإنساني إلا أنه لم يظهر بمفهومه الحديث إلا من خلال التبسيط في مفهوم الفنون والآداب والعمارة خلال ستينات القرن المنصرم واستخدم للتعبير عن التبسيط في استهلاك الأشياء ليمتد بعدها ليشمل الكثير من نواحي الحياة المختلفة ابتداء من النمط الاستهلاكي في الحياة اليومية وتكديس الأشياء غير الضرورية التي لا حاجة إليها مرورا بالتخفيف والتقليل من كل شيء في الحياة والعودة الى البساطة والزهد والتقشف في المسكن والمأكل والمشرب وهذا ما يحاول أنصار هذه الطائفة إثباته.

قد لا نحتاج إلى أن ننتمي إلى هذه الطائفة لكي نزهد في الكثير من الأشياء اللامعة والبراقة في الحياة، ولا نحتاج إلى أدلة استرشادية لتقودنا إلى فهم أن الكثرة في كل شيء في الحياة شيء محمود، لكننا بحاجة الى فهم أن التوسط والاعتدال في كل شيء في الحياة هو السبيل الأمثل لعيش حياة سعيدة هانئة مطمئنة بعيدة عن التطرف والزهد والإسراف فهذا نهج حياة يجب أن نحياه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع