التخطي إلى المحتوى الرئيسي

في ذكرى عام مضى


عام يلملم أوراقه ويطوي صحائفه بكل ما فيها من حسن وقبيح، جيد وسيئ، صحة وسقم، حب وكراهية. عام جمع الكثير من المتناقضات والمترادفات ويأبى أن يرحل برتابة كما رحلت السنون التي سبقته، بل ترك ذكريات كثيرة وندوبا عميقة وأوجاعا يتوالى أنينها أبد الدهر. عام تقترب آخر أوراقه من السقوط لكنه قبلها أسقط أوراقا كثيرة وعرى أرواحا عديدة وثكل أنفسا وأضحك قلوبا وأبكى أرواحا.


عام يرحل بعد أن ترك أرضا بورا ينعق فيها الغراب وتعصف فيها رياح الحروب والأزمات، والأوبئة، والأسقام، والأوجاع. عام يرحل وقد نشر السلام والطمأنينة في بعض البلاد التي زارها الحظ فابتسم لها القدر وصافحتها السعادة والهناء. عام تكًسب منه أناس وملل ونحل ودول وخسر فيه أيضا أناس وملل ونحل ودول. عام يأبى أن ينسلّ من دون ضوضاء أو ضجيج أو أن يغادر من دون جلبة، عام يأبى أن يقول وداعا من دون مفاجآت اللحظة الأخيرة.


عام خط بقلمه كثير من القوانين والأعراف وغير في كثير من القيم والعادات ورسخ لمفاهيم لم تكن حاضرة قبله وبدل من كينونة الإنسان وصيرورته وأخرج من قمقمه كثير من المغالطات لم تكن مستحبة ولا مستساغة في الأعوام التي سبقته وحرف وبدل في بشرية الإنسان واجتماعيته وعدل في طبائع الإنسان وسلوكياته وحذف وأضاف بعضا من سمات فطرية الإنسان ليستبدلها بفطر اصطناعية صماء جامدة تحيا بلا روح وتعيش بلا نفس.


المحور في هذا الموضوع هو الإنسان، فهو أساس الحياة وركيزتها التي تقوم عليها الدنيا بأكملها، وقد لا يعني تعاقب السنون والدهور والأزمان أن تتغير الفطرة السوية التي فطر عليها هذا الإنسان بقدر ما تتغير بعض السمات والخصائص والأوضاع في حياة هذا الإنسان فهذه سنة الكون التي جرت على البشرية منذ الأزل ولا تزال تجري عليها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، تقتضي تطورات الحياة ومداراتها أن يتحول الإنسان ويتبدل ويتطور ويتأقلم أيضا مع من حوله أولا ثم مع كل ما يستجد في الحياة من قوانين على أن يحاول الإمساك بذاته الداخلية من الانجراف في سيل المتغيرات السلبية التي تتعارض مع قيمه ومبادئه وأن يحاول رسم طريق خاص به يبتعد به عن كل المسارات والدروب التي تؤدي إلى مصارع الهلكة والخراب.


عام يمضي وعلينا أن نستذكر دروسه ونراجع تاريخه ونستحضر ماضيه، فالتاريخ أفضل معلم للبشرية وخير مؤدب لها فمنه يتعلم الإنسان ومنه يتطور ويتقدم ويتأقلم، ومن نافذته يطل على المستقبل ويستشرفه ويتطلع إليه بكثير من الحب والشغف ومنه يعرف أين يقف اليوم والى أين هو ذاهب غدا. من التاريخ وعبره ودروسه تصنع الحضارات وتبنى الأمم وتعتمر الأرض ويتقدم الإنسان، فدروس الماضي هي رؤى للمستقبل وخطط للحاضر لا غنى للإنسان عن دراستها والوقوف عليها فما فات كما يقال مات لكنه باق للاستفادة منه ومن دروسه وعبره.


عام يمضي وسيأتي بعده عام - الله أعلم به منا- نرجو أن يكون فيه الخير عميما والسلام سبيلا والطمأنينة مسلكا وطريقا، ونأمل في العام الجديد أن تهدأ لهاثات البشرية ويسكت صراخ الإنسان وزعيقه وأن يتسرب بعض من الهدوء والسلام إلى دواخلنا ليبدأ من أرواحنا الداخلية لينتشر بعدها إلى الأرواح الخارجية ومنها إلى البشرية ككل. نأمل في العام الجديد أن نجد ذواتنا وأن نسعد أرواحنا وأراح من حولنا وأن تجد البشرية ترياقا يعيد إليها نضارتها وشبابها ويرجع إليها قوتها وعنفوانها وأن ترجع البشرية إلى حضن أمها الأرض لتعانقها وتحضنها كي يتصالح الكون مع الإنسان الذي هو بالأساس محور هذا الكون وفلكه الذي يدور حوله. نأمل في عام جديد تصفو فيه الحياة للبشرية وأن تتحقق فيه كل الأماني والغايات. نتمنى ونأمل أن يتحقق ما نتمناه فالعام القادم قد يحمل معه بشارات خير لنا جميعا.


عبدالله الشعيلي كاتب عماني ورئيس تحرير جريدة عمان أوبزيرفر


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع