التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نأكل ما لا نزرع


 أتساءل كثيرا كيف وصلت أرقام الأيدي العاملة الوافدة في هذه البلاد إلى أرقام قاربت أعداد السكان الأصلية وستفوقها عددًا خلال السنوات القليلة القادمة فنحن لا نعد أو نصنف من الدول الصناعية التي هي بحاجة إلى عمالة لتسيير مصانعها، ولا نصنف أيضا بأننا من الدول التجارية التي هي بحاجة إلى تسيير تجارتها عن طريق استقدام الأيدي العاملة إضافية، ولسنا من الدول الزراعية التي يعتمد اقتصادها على ما يزرع في أرضها ويستهلك داخل أو خارج أرضها فنحن لا زلنا وكما قال جبران خليل جبران بأننا «نلبس مما لا ننسج، ونأكل مما لا نزرع، ونشرب مما لا نعصر» وإذا كنا كذلك فيبقى السؤال أين تتركز هذه الأيدي العاملة، وماذا تفعل وما الذي نقوم به نحن وما الذي تقوم به هذه الأيدي العاملة التي استوردناها؟.
إحصاءات رسمية حاولت إيجاد إجابات لتلك التساؤلات موضحة أن معظم هذه الأيدي العاملة هي من الأيدي العاملة غير الماهرة التي لا تحمل مؤهلات دراسية عالية أي أن مؤهلاتها الدراسة لا تتجاوز الإعدادية العامة وبعضها ليس لديه حتى إلمام بالقراءة والكتابة في حين أن الأيدي العاملة الماهرة لا تتجاوز نسبتها العشرة في المائة من مجمل الأيدي العاملة الوافدة، وهذا ما يعطي مؤشرا على إمكانية الاستغناء عن كثير من هذه الأعداد التي لن نتضرر كثيرا إن لم تكن موجودة بل على العكس من ذلك سوف نجني الكثير في حال قللنا من تكدسها.ما هي هذه الفئة من القوى العاملة التي تمثل أكثرية في هذا البلد والتي نوهم أنفسنا أننا لا نستطيع أن نحيا بدونها أو أدمنا على خدماتها اليومية وهي ذات القوى العاملة التي تقوم بتحويل ملايين الريالات يوميا الى بلدانها من دون أن تبقي ولا حتى الشيء القليل هنا لاستثماره أو إنفاقه؟ إنها فئة القوى العاملة التي نلجأ إليها كل يوم في البيت والمتجر والمقهى والمطعم والمزرعة وفي محل الحلاقة وفي صالونات التجميل والتزيين وفي الخياطة والتطريز وفي الغسيل والتنظيف وفي كل دقيقة من دقائق يومنا الذي نبدأه بالاستعانة بخدماتهم وننهيه بالاستجارة بهم.
هم منتشرون ويطوقوننا من كل مكان لأننا بتنا رهينة لخدماتهم الزهيدة التي يقدمونها لنا، نحن لا نشرب إلا من أيديهم ولا نأكل إلا ما يطبخوه لنا ولا نزرع إلا ما يحصدوه لنا ولا نلبس إلا ما يغسلوه لنا ولا نسكن إلا ما يبنوه لنا ولا ننتعل إلا ما يفصلوه لنا، بتنا لا نستطيع أن نحلق ذقوننا إلا بالاستعانة بهم ولا نغسل سياراتنا إلا إن هم غسلوها لنا ولا نأكل أو نطبخ إلا ما اشتهوه هم لنا ولا ننظف بيوتنا وشوارعنا وأزقتنا إلا إن هم نظفوها لنا ولا نشرب ماء إلا إن هم احضروه لنا ولا نصلح ما خرب إلا إن هم قاموا بإصلاحه لنا.
بتنا مدمنين على خدماتهم التي نتوقع أن الحياة لا يمكن لها أن تستمر إلا ببقائهم ونتساءل في نهاية اليوم عن سر ارتفاع أعدادهم وعن ملايينهم التي يصدرونها من جيوبنا وعن تكدس أبنائنا للبحث عن عمل مناسب لشهادته العليا التي أفنى عمره في سبيل الحصول عليها، وعن صحتنا التي تدهورت بسبب الكسل وعدم الاعتماد على الذات ونلجأ حتى في هذه الحالة إلى الوافد ليخلصنا من سمنتنا ومن أوجاعنا وأمراضنا، ونسينا أو تناسينا عمدا أن السبب في ذلك كله يرجع إلينا وأنه حق علينا أن نلوم أنفسنا بدلا من أن نلوم الآخر على ذلك.
أكتب هذا الكلام وأنا أول من يناقضه، فأنا لا أطيق صبرا على خدمات هذه الأيدي العاملة التي يهيأ لي أنها زهيدة الثمن، أكتب بسهولة ولكنني لا أستطيع الإقلاع عنه بذات السهولة فقد وصلت إلى حد الإدمان والاعتماد الكلي على خدمات هذه الفئة التي تتعاظم أعدادها يوما بعد يوم، إنني أكتب لأقنع نفسي أنني سوف أبدأ اليوم في مقاطعة بعضا من هذه الخدمات، سوف لن أشرب شاي الكرك وآكل خبز الرخال العماني من المقهى المجاور لبيتي، سوف أغسل دشداشتي بنفسي، ولن أبعثها إلى عامل المغسلة في حارتنا، سوف أطبخ غداء أو عشاء في البيت، ولن أذهب إلى المطعم أو المقهى الملاصق لمسجدنا، سوف أغسل سيارتي بنفسي وأحلق بنفسي وأكوي بنفسي وأزرع حديقتي ومزرعتي بنفسي وأنظف بيتي بنفسي، سوف أقوم بكل ذلك كله اليوم ولن احتاج بعد اليوم إلى خدمات ذلك الوافد الذي هجر وطنه ليستوطن وطني ولكن يبقى السؤال هل أستطيع أن أبدأ؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع