التخطي إلى المحتوى الرئيسي

آخر الأباطرة


  أول ترحيب بنا لدى وصولنا العاصمة بكين كان بشرب الشاي الصيني بالطريقة الصينية، فالصينيون يعتبرون شرب الشاي من طقوس الترحيب بالضيف والاحتفاء به – كما هو عندنا في شرب القهوة المرة –- ولا تخلو مائدة أو طاولة صينية من الشاي فهم يشربونه بشكل دائم في الصباح والظهر والعصر وبالليل وعلى الإفطار وفي الغداء وعلى مآدب العشاء فالشاي حاضر في كل أمسياتهم واحتفالاتهم وترحيباتهم، ولك أن تتخيل أن الصيني يمكنه أن لا يشرب الماء لكنه لا يمكن أن يصبر عن شرب شايه الأخضر.
سمعت من الصينيين أنفسهم عن فوائد شايهم في حرق الدهون وتخفيف الوزن والوقاية من الإصابة من كثير من الأمراض، إلا أنني لم استطع أبداً أن أشربه طوال الوقت كما يفعلون هم فقد حنت نفسي وعقلي إلى شاي الكرك الذي أدمنت عليه والذي وللأسف لم أجد له أثرا في الثقافة الصينية، لذا فقد حاولت إسكات إدماني بتناول قهوة سوداء تعيد إليّ بعضا من تركيزي ولكن بدون فائدة تذكر.
عقب الاحتفاء بكأس الشاي الصيني أخذنا وجهتنا إلى المدينة المحرمة التي فارقها آخر أباطرتها في العام 1924 بلا رجعة بعد أن كانت مقرا لحكم أسرتي مينغ وتشينغ اللتين حكمتا الصين خلال 491 عاما، وسميت بالمحرمة لأن أسوارها العالية التي يبلغ ارتفاعها العشرة أمتار والنهر الصناعي الذي يطوقها والحراسة القوية على بواباتها الجنوبية والشمالية كانت كفيلة بمنع فئات الشعب الصيني من دخولها، فهي مقتصرة فقط على الإمبراطور وحاشيته وضيوفه الذين يستقبلهم في القسم الأول من المدينة الذي خصص للاستقبالات الرسمية في حين خصص القسم الداخلي من المدينة لإقامة الإمبراطور وعائلته وعدد كبير من الخدم الذين يسهرون على راحته.
تذكرت وأنا أقف على بوابة المدينة المحرمة بانتظار تذاكر الدخول إليها فيلم «الإمبراطور» الأخير“The Last Emperor” الذي أخرجه برناردو برتولتشي في العام 1987 وحاز على تسع جوائز أوسكار من بينها أفضل فيلم، ويحكي قصة آخر إمبراطور صيني هو «بو ئي» الذي نصب إمبراطورا على الصين وهو صبي صغير وخلعته الثورة الصينية التي غيرت نظام الحكم إلى جمهوري بدلا من الامبراطوري ولكنها أبقته في القسم الداخلي من المدينة شبه مسجون إلى أن طرد منها نهائيا في العام 1924 ليلجأ إلى اليابان متحالفا معهم. الغريب في قصة هذا الإمبراطور انه اختار في آخر أيامه أن يعمل بستانيا ومزارعا في حدائق المدينة المحرمة بعد أن كان في يوم من الأيام مالكا لها ولمن فيها.
همست مرافقتنا في آذاننا من أن زيارتنا للمدينة المحرمة لن تكتمل إلا بزيارة معبد السماء والذي كما يبدو من اسمه أن له علاقة بالسماء والصلاة والاستغفار وطلب الصفح من مالك السماء والأرض، فهذا المعبد خصص لأباطرة الصين لتقديم الهدايا والقرابين والذبائح للآلهة استجداء للخصب والزراعة وطلبا للصفح حيث كان الإمبراطور يعتبر نفسه أنه ابن السماء ويقدم قرابينه السماوية من معبده الذي في الأرض.
كافأنا عقب هذه الزيارات التاريخية مضيفنا تشو شوو تشن وهو الأمين العام لرابطة صحفيي عموم الصين ( ما يماثله معنا رئيس جمعية الصحفيين) بمأدبة عشاء فاخرة تسيدها أولا الشاي الصيني الأخضر الممزوج ببعض الأعشاب الطبيعية، جاءت بعدها المأدبة العامرة بلحم البط المشوي على الطريقة الصينية مع بعض الأطباق الصينية التي تحتوي على أعشاب البحر والخضار منها ما تعرفنا عليه ومنها ما لم نعرفه أو نشاهده من قبل، وفوق هذا وذاك حاول مضيفونا إقناعنا بأن نأكل طعامنا بالأعواد الصينية التي لا ندري حتى طريقة إمساكها فضلا عن الأكل بها، ومع بعض المحاولات المستميتة ألقيناها جانبا وبدأنا في التهام بطتنا المشوية باليد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع