التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عن ماذا تريدنني أن أكتب ؟


  دعوني أعرفكم بنفسي، أنا بالإسم صحفي، تخرجت من الجامعة من قسم الصحافة والاعلام، والذي دُرستً فيه بأن الصحافة هي السلطة الرابعة وهي صاحبة الجلالة وأن الصحافي هو من يبحث عن الحقيقة لا من ينقل ما يملى عليه.

ربما كانت نظريات الاعلام وما كنا ندرسه في تلك الجامعة لا يمت الى الحقيقة مطلقا بصلة ولا بالربع منها. كانت تلك النظريات تخبرنا بأنك يا صحفي عندما تلتحق بالعمل فإنك يجب أن تكون مجدا ومخلصا في مهنتك، باحثا عن الحقيقة، عونا لبلدك في كشف الكثير من أمور الفساد والتلاعب والرشاوى وفضح ما خبىء تحت الطاولة من أسرار، وإنك يا صحفي المستقبل لا بد أن تكون مثالا يحتذى به أمام المجتمع والجمهور وأمام كل الناس وأن لا تتهاون في مد يد العون لكل من طلبها منك من فئات الشعب التي لا تجد غيرك أنت أيها الصحفي لإيصال صوتها.

تعلمنا في الجامعة أن نكون مثل صحفيي الواشنطن بوست (كارل برنستين وبوب وود ورد) اللذان بفضلهما تم الكشف عن فضيحة ووتر جيت التي تورط فيها الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة ريتشارد نكسون. وحلمنا في ذلك الوقت بأننا حال خروجنا من أسوار هذه الجامعة التي كانت تحد من مقدراتنا الصحفية بأننا سنحقق خبطات صحفية وسبقا صحفيا وسنكشف الكثير مما لم يستطيع جيل الصحفيين القدامى من تحقيقه، وسنرد الجميل لوطننا من خلال أقلامنا.

خرجت من الجامعة وخرج قبلي أناس كثر ومن بعدي الأكثر، ولم يتحقق حلم أيا منا نحن دارسي الصحافة والاعلام، لم نحقق خبطات بوب وود ورد، ولم نكشف فسادا، ولم نحقق سبقا صحفيا، ولم نبرز كصحفيين لا في الداخل العماني ولا في الخارجي الخليجي.

نعم، نحن صحفيين بالإسم، لا فرق بيننا نحن دارسي ومتخصصي الاعلام وحاملي شهاداته العليا وبين حاملي الشهادة الابتدائية أو الثانوية، الكل يعمل في مجال الصحافة وليس بصحفي، الكل يكتب في جريدة أو مجلة أو إذاعة أو تلفزيون ولكنه ليس بصحفي بالمعنى المحترف للصحافة، الكل منا لديه قلم يكتب به، ولكن عن ماذا يكتب.

سأخبركم عما نكتبه نحن معشر الصحفيين.

نكتب عن مغادرة الوزير الفلاني وأوبة الآخر، نكتب عن إجتماع لجنة البلدية هنا ومكتب الوالي هناك، نكتب عن استقبال فلان لفلان وتوديع علان لعلان، نكتب عن حملة للنظافة هنا وحملة لحوادث السير هناك، نكتب عن أمسية شعرية في نادي ثقافي وعن مهرجان سياحي. نتمادى في الكتابة وتوجيه النقد اللاذع لخسارة منتخب الكرة وعدم انتشار الشعر والقصة، ننتقد بشدة هبوط الدراما الرمضانية ونحمل أسباب هبوطها الممثل، ونعاتب وبشدة سوق الاسهم إن انخفضت قيمة أسهمه.

ولكن هل هذا كل شىء؟

نعم، هذا هو كل شىء، هذه هي مساحة الحرية المتاحة للصحفي أن يكتب فيها، وقد تزيد جرعة هذه المساحة أو تنقص حسب أهواء القائم على النشر، وحسب الجو والمناخ السائد في البلاد والمنطقة والعالم، وحسب اعتبارات اخرى لا نعلمها نحن ولا أنت أيها القارىء، فقط يعلمها من بيده العلم فقط.

عن ماذا تريدوننا أن نكتب؟

هل نكتب عن فساد إداري ومالي وغش وتدليس؟ هل نكتب عن خداع وسرقة ونصب؟ هل نكتب عن استغلال نفوذ ومنصب؟ هل نكتب عن معاناة فقير معدم لا يملك ريال لقوت يومه؟ هل نكتب عن شركات واستثمارات وهمية؟ هل نكتب عن حيازة أراض بألاف الهكتارات؟ هل نكتب عن محاربة طمع وجشع البنوك وكبار التجار؟ هل نكتب عن ضحايا مخدرات وأمراض جنسية أخرى؟ هل نكتب عن تقصير مؤسسة حكومية في خدمة المجتمع؟ وهل وهل .. الخ

نعم، نستطيع أن نكتب عن كل ما قيل أعلاه، وبكل عقلانية وطرح قانوني رشيد، ولكن يبقى هاجس داخلي في أعماق أعماق قلبك ينبهك بأن هنالك خطر على نفسك من نفسك مما تكتبه، ولسوف تلقى الأمرين إن كتبته ونشرته، ولسوف تجد نفسك وحيدا يتخلى عنك الجميع ويبدأون في التشفي منك، ولسوف يخوض الخائضون فيما كتبته ويكثر الناقدون لما قلته، وقد لا تسلم من تحقيق أو اتصال أو اعتقال أو معاتبة أو كما يقال من قرصة صحفية في خدك الايمن، وتتمنى بعدها أن لا تكتب إلا أخبار استقبال فلان لفلان.
يبدو أنني رسمت صورة قاتمة لصحافتنا وصحفيينا، ونسفت كل تاريخ الصحافة العمانية السابق واللاحق بكلامي هذا، وطبعا لن يرضى به كثير ممن جعل هذه المهنة مصدر كسب له ولعياله، وفي المقام الاول لن يرضي ما قلت من اؤتمن على صحيفة أو وسيلة إعلامية، ولن يرضى به كثير من القراء والمحبين للصحافة والاعلام، ولكني كتبته من واقع ما عايشته أنا شخصيا من معاناة صحفية ومن شح في المصادر ومن خوف صحفي حقيقي، ومن سنوات من عمر نهضة كرست مفهوم التنمية في الشارع والمدرسة، ومن بلادة صحفية أنتهت لتكون وظيفة بدلا من مهنة ومن أشياء كثيرة لا تحتمل هذه السطور كتابتها. ولكني أقول أخيرا بأن ما كتبته قد لا ينطبق على باقي زملائي الصحفيين المحترفين، وإنما أنا فقط من يتحمل وزره.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع