التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نعم أنا غني ، ولكن





  لا أدري ما هو الوصف المناسب للحالة التي اعترتني أثناء قراءة خبر نشر في الصحف المحلية عن أننا نحن العمانيين نعتبر خامس أثرى أثرياء العرب، ونقع في المرتبة السادسة والثلاثين ضمن الأثرياء العالميين، هذه الحالة كانت مزيجا بين الفرح وانفراج الأسارير وبين تقطيب الوجه وعبوسه، هل أفرح لهذا الثراء الذي وصلنا إليه، أم أتفرج على الأرقام التي بدت أنها واقعية لكنها أرقام هلامية.


نعم، قد أكون غنيا بمعايير ومقاييس المجلة العالمية التي نشرت هذا التقرير، ولكنني في ذات الوقت فقير حيث أنني لا أمتلك من هذه الأرقام المعلنة إلا الصفر الذي لا يفارق رصيدي البنكي عند منتصف كل شهر ميلادي.


نعم، أنا غني، فأنا أمتلك منزلا فخما في أحد أحياء العاصمة مسقط، وأسوق سيارة دفع رباعي كبيرة، وملابسي نظيفة لامعة، ولدي عاملة منزل في البيت تعتني بالأسرة والأطفال، وأولادي يذهبون إلى أفضل المدارس الخاصة، وأمتلك عددا من الأجهزة الالكترونية المحمولة منها والثابتة في المنزل والسيارة و و و ، ولكن مع كل هذا فأنا فقير لا أملك من متاع هذه الدنيا شيئا، فالبيت مرهون لبنك تجاري يشفط نصف الراتب بقروضه الخيالية التي لا تضاهيها إلا أرقام المؤشر السابق الذكر، وأعتقد بأنه لو وضعت دراسة في هذا الخصوص فإننا سنأتي في المرتبة الأولى عالميا من حيث ارتفاع نسب الفائدة على القروض الإسكانية والشخصية والربوية والإسلامية، كذلك هو الحال مع السيارة الفارهة التي يذهب إليها ربع ما تبقى من الراتب فتخصمه شركات التمويل التي تحذو والحمد لله حذو البنوك في رفع نسب الفائدة على شراء السيارات والمركبات وما شابهها.


نعم، أنا فقير لأنني مضطر وبقوة لان أبعث ابني أو ابنتي يوميا لمدرسة خاصة أو كلية أو جامعة وسمها ما تسمها فأنت تدفع للعلم منذ المهد إلى اللحد، لأنني أرى مخرجات تعليمنا العام منذ الأول وحتى الجامعة لا تتناسب ومتطلبات العصر الذي نعيشه، طلابنا لا يعون كثيرا في مدارس الدولة التغيرات الحاصلة في علوم المعرفة والعلم الحديث وتقنياته، لذا فأنا وإن كنت خامس الأغنياء العرب فأنا مضطر لتدريس أبنائي في مدارس خاصة تمتص ما تبقى لي في جيبي من ريالات حمراء وعشرينات خضراء.


نعم، أنا فقير، لأنني مضطر عندما يبتليني الله بمرض في بدني أو بدن أحد أبنائي أن أذهب إلى أحد المستشفيات أو العيادات أو المجمعات الصحية الخاصة أطلب منها بعد الله الشفاء من علتي، لان مستشفيات وعيادات ومجمعات بلادي الصحية لم يكتب لي الله على يديها الشفاء وكتبها على يد الخاصة منها. ألجأ إلى مستشفيات خاصة للعلاج لان جهة عملي كوني موظفا حكوميا لا تقدم لي خدمة العلاج على نفقتها الخاصة، فأنا كموظف حكومي إن مرضت فإن باب المستشفى والعيادة الحكومية مفتوح إن وفقت في الوصول إليه من الزحام والمواعيد والطوابير.

نعم، أنا فقير، لان فاتورة علاجي في المستشفى الخاص تقفز كل يوم فهي مثل حركة الأسهم إلا أن الفرق بينهما أن الأول لا ينزل أبدا، فهو دائم الارتفاع حاله حال الدواء في صيدليات تلك المستشفيات الخاصة التي ما أن ينتهي الطبيب من علاجك حتى يصف لك علاجا يعادل نصف أدوية تلك الصيدلية.

ومرة أخرى أنا فقير، لان سلة المشتريات الضرورية لمقومات الحياة كل يوم هي في ازدياد، وبالطبع ارتفاع المتطلبات يوازيه ارتفاع في الفاتورة المدفوعة ولا يشفع لك في ذلك الاستغاثة وطلب النجدة من حماية المستهلك التي لا يخلو يوم من أيام الله من خبر لها منشور في الصحف عن جهودها المبذولة لحمايتي وأمثالي من المستهلكين من التجار الجشعين.

نعم، يا أعزائي، أنا خامس أغنياء العرب والسادس والثلاثين عالميا بحسب إحصاءات مجلة جلوبال فايننس العالمية التي قيمتني على أساس نصيب الفرد من الناتج المحلي لبلادي والذي لا أملك منه الكثير فهو يأتي باليمين من الدولة ويذهب بالشمال إلى باقي المنتفعين والمتنفعين فيها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع