التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الأشجار تموت واقفة




تروي لنا الحكايات انه في جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادي أنهم اذا أرادوا اقتطاع شجرة فان القبيلة تجتمع من حولها وتاخذ في لعنها وبعد ايام تموت الشجرة.


هكذا وردت هذه العبارة على لسان الممثل الهندي عامر خان في فيلمه " الطفل المميز" أو بالهندية ان أصبت نطقه فهو " تاري زامن بار" Taare Zamen Par . ويتحدث الفيلم عن طفل صغير لديه صعوبات في التعلم ولا يستطيع تمييز الحروف من بعضها وليست لديه المقدرة على الفهم كباقي زملائه وأقرانه مما جلب عليه سوء معاملة من والده أولا ومن معلميه ثانيا، غير أن مدرسا للفنون كان قد اصيب بمثل هذا المرض من قبل شخص حالة هذا الطفل وبدأ في علاجه واقناع الجميع بأنه طفل مبدع مبتكر لا سيما في الرسم.


حالة هذا الطفل وغيره من الاطفال تشخص اليوم على أنها نوع من مرض التوحد وتتمثل أعراضها في الانعزالية وعدم التواصل مع الاخرين واضطرابات في النوم والاكل والشرب وغيرها من الاعراض، وقد يصاب المرء بالعجب عندما يقرأ بأن عددا من المخترعين والمفكرين والادباء والفنانين التشكيلييين العالميين كانوا مصابين بهذا المرض من أمثال موتسارت وبيتهوفن ومايكل أنغلو وهيرمان مليفل وإسحاق نيوتن وأينشتاين وفان جوخ، وغيرهم حتى أنك لتصاب بالدهشة عندما عندما تعلم بأن أغنى الاغنياء " بيل غيتس" كان في يوم من الايام مصابا بهذا المرض ويعاني من صعوبات في التأقلم مع الآخرين.


لنعد الى حكاية جزر سليمان وما يماثلها في تراثنا الذي يؤمن ايماننا يصل الى حد اليقين بالعين فتجدنا نستعين بالله من الشيطان الرجيم ومن شر حاسد اذا حسد، اذا كان الامر يتعلق بزراعة الاشجار، فعلى ما أذكر أنه كانت توجد في قريتنا امرأة يتوجس منها الجميع خيفة ان دخلت بيتا أو مزرعة واعجبت بشجرة مثمرة فان تلك الشجرة سوف تموت وتذبل لا محالة بعد أيام معدودة.


ما قصده الممثل الهندي عامر خان في فيلمه عندما ساق هذه العبارة من أنه ليست الاشجار وحدها التي تموت ان صرخنا في وجهها ولعناها وكلنا لها كل عبارات القدح والذم والتشهير والاحباط، وانما الانسان الذي غرس هذه الشجرة يمكن أيضا أن يموت ان لم يعامل معاملة حسنة طيبة وسمع من كلمات الاطراء والمديح والتحفيز ما يجعله ينمو ويزدهر ويبدع وينتج أفضل ما لديه بل ويتفانى في اخراج اجمل الزهور في حياته وريعان شبابه.


ولكن كيف نعامل نحن من حولنا في هذه الحياة؟ كيف نتعامل مع أنفسنا أولا وكيف نتعامل مع أقرب الناس الينا وكيف نتعامل مع أطفالنا – حتى وان لم يكونوا مرضى بأي مرض – وكيف نتعامل مع المجتمع من حولنا، وكيف نتعامل مع خصومنا وكيف نتعامل مع البيئة والاشجار والنبات والزهر من حولنا؟ هل تعاملنا في هذه الحياة السريعة اللاهثة التي تمتاز بالسرعة في كل شىء في القيام من النوم، في الافطار، في قيادة السيارة، في قراءة الجريدة، في التصفح الالكتروني، في كل شىء نحن لا نملك وقتا لاي شىء. ان سألت الكثير من الاشخاص في هذا الزمان كم من الوقت تقضيه مع أطفالك وأهلك ووالديك؟ فان الجواب المنطقي بالنسبة له: يا أخي ليس لدي وقت حتى لشرب كوب من الشاي أو القهوة. هو مشغول بالا شىء يلهث في كل مكان يحاول أن يحوي كل شىء، فكيف يكون لديه الوقت ليتأمل ويتفكر ويتدبر في من حوله من الاشخاص لا سيما الاقربون له.


سألت أكثر من زميل: ابنك يدرس في أي صف؟ وفي أية مدرسة؟ وماذا يدرس ومن يدرس له؟ فكان جواب معظم من سألت بأنه يعرف موقع المدرسة لكنه لا يعرف اسمها ولا يعرف بالطبع في أي فصل ابنه أو ابنته ولا ماذا يدرس ولا ما كانت نتائجه ولا ولا ولا، الغالب الاعظم من هؤلا معتمد في كل ذلك على الام – ان كان الله قد قذف في قلبها رحمة – فهي قد تتابع أولادها وقد يكون هذا مناطا بالعاملة التي تدير كل شىء في المنزل حتى الاطفال، وقد يناط هذا الشىء بالمدرسة لان المدرسة مهمتها التعليم والبيت يكون للاستمتاع واللعب ومشاهدة التلفزيون والترفيه.






نعم نحن نحب أنفسنا أكثر من حبنا لاي شىء آخر في العالم حتى وان كان أقرب الناس الينا، ولكننا ننافق أنفسنا عندما ندعي بأننا نحن ابنائنا وآبائنا وزوجاتنا ونحب الناس جميعا ونحب الحياة ونحب الطبيعة والاشجار. حبنا لذواتنا طغى على كل حب آخر، فصارت الانانية هي المتحكمة فينا، لو أحببنا الآخرين بقدر حبنا لأنفسنا لبتنا في أفضل حال مما نحن عليه اليوم، ولما انتشرت فينا كثير من الامراض التي نعاني منها نحن ويعاني منها أطفالنا، ولما ماتت الاشجار وهي واقفة من صراخنا ونعيقنا ونعتها بعبارات الذم والقدح.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع