التخطي إلى المحتوى الرئيسي

زمن المكتب الجميل



 عبدالله بن سالم الشعيلي

Twitter:@ashouily


” في يوم من الأيام ستكون المكاتب شيئا من الماضي”،، هذا ما قاله ريتشارد برانسون رجل الأعمال والملياردير الأمريكي عن مستقبل وطبيعة الأعمال في المستقبل، فما يقوله أباطرة المال اليوم يصبح حقيقة حتمية غدا، فلن تكون هنالك حاجة إلى بنايات ضخمة تضم مكاتب ومقار لشركات ومؤسسات وموظفين يتناوبون على العمل طوال الساعة، وموظفين يخدمون الموظفين الأساسيين، ويسهرون على راحتهم ويراقبون أدائهم. كل ذلك سيختفي في المستقبل القريب جدا.
أزمة كورونا أفرزت العديد من الممارسات الصحية، فيما يتعلق بالعمل وبيئته وطبيعته، هذه الأزمة أزالت ورقة التوت عن جسد بيئة الأعمال، وعرت الكثير من المؤسسات التي كانت تعتمد بيئة الأعمال التقليدية كنبراس لها في العمل، وساهمت بشكل أو بآخر في تقليص الأعداد الزائدة من الوظائف التي ربما كان السبب الرئيس فيها وجود المكاتب.
ماذا سيحصل إن اختفى زمن المكتب الجميل؟ ذلك الزمن الذي كان الموظفون والأصدقاء يتجمعون فيه من كل الأقسام والداوئر لتبدأ منه وفيه كل حكايا الدنيا؛ بحلوها ومرها، حسَنِها وقبيحِها جيدِها وسيئِها، ويبدأ منه الطواف بالعالم وأخباره ويسرد الكل سيرته العطرة وما صادفه في يومه وأمسه.
ماذا سيحدث إن صدقت نبوءة برانسون وأصبحت مكاتبنا شيئا من الماضي؟
قد لا أستطيع تخيل ذلك اليوم. دوام من دون مكتب؟ طاولتي الطويلة العريضة وكرسيي العالي الوثير و” كنبتي” التي يرتاح فيها المراجعون والموظفون وقهوتي التي يمتدحها الأصدقاء، ومنسقتي وعامل التنظيف، ومقلم الأشجار، وساعي البريد، وفني الصيانة، وفني الحاسب الآلي وفني الكاميرات، ومسؤول الأمن، ومسؤول الحراسة، وموظف الاستقبال، وموظف الحضور، وموظف البصمة، وموظف التشجير، وموظف تنظيف السيارات، وجيش آخر من الموظفين لا يتسع هذا المقال لذكرهم، لكنهم حتما يخدمونني ويسهرون على راحتي في مكتبي. هل سيختفي كل هؤلاء؟
هل ما يعنيه برانسون وزمرته من أصحاب الرساميل العالية أن ننكفئ على أنفسنا ونرتد إلى بيوتنا وننقل مكاتبنا إلى غرف نومنا ويصبح هاتفنا المحمول وجهاز اللابتوب هما مكتبنا أينما كنا، فنحن في عمل وشغل دائم. هل سنستبدل أصدقاء المكتب وأجوائه الجميلة بغرفة مكتب في الطابق العلوي في المنزل وتستبدل الأصدقاءَ بالزوجة والأولاد والأحفاد والآباء والأمهات ليكونوا هم جلساؤك طوال عملك المنزلي؟
قد لا يبدو الأمر بالنسبة لي بأنه قابل للتطبيق، أو لأكون محسوبا على حزب ” مقاومة التغيير” الرافض لكل فكرة جديدة أيا كان مصدرها وأيا كان نفعها، وأقول بأن هذه الأفكار الهدامة التي تأتينا من الغرب إنما هي أفكار لا تراعي طبيعة مجتمعاتنا العربية المعروفة بالكرم والشهامة والترحيب بالضيف، والمراجع، وأننا كشعب اجتماعي أو كما قال أستاذنا الكبير جدا “ابن خلدون” بأن الإنسان وخصوصا العربي “اجتماعي بطبعه” لا يمكنه العيش أو العمل من البيت بمفرده، وإن عمل الموظف من بيته سوف يخلق شرخا في المجتمع ويمزق أواصر المحبة والمودة ويخلف وراءه أمراضا نفسية واجتماعية وسلوكية يعاني منها الفرد والمجتمع، وهذا ما ينادي به علماء الاجتماع وعلماء السلوك وعلماء النفس وعلماء السيكولوجيا وعلماء انفصام الشخصية الذين أجمعوا كلهم على أن العمل من المنزل يهدد الفرد وأسرته والمجتمع بأكمله بنشوء مشاكل لا حصر لها.
لنستمتع قليلا بمكاتبنا الوافرة، ولنستمتع كثيرا بالعمل من المكتب، ولنستمتع كذلك بصحبة أصدقاء العمل قبل أن تتحقق نبوءة برانسون الذي يتفاخر في كل مرة يقف فيها أمام شاشات التلفزيون بأنه صاحب قصص نجاح، وقد تكون قصته هذه من قصص النجاح التي سيرويها لنا قريبا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع