التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العارف بكل شىء


 من الجيد، وربما من غير الجيد أن تصادف “العارف بكل شيء” ليتحدث إليك في كل شيء ويفتي في كل شيء ويجيب على كل شيء، تسأله عن السياسة فتجده بحر خضم لا يشق عبابه، وتسأله عن الاقتصاد فتجده محللا وكأنه درس في هارفارد، تسأله عن الحياة وشجونها فتجده فيلسوفا متصوفا يشبه ابن الفارض أو ابن عربي، يحدثك عن التاريخ وكأنه هيردوت ويكلمك عن الجغرافيا وكأنه ناشيونال غيوغرافيك. يجيد الحديث في كل شيء وفي كل وقت وفي كل زمان.
يقول “العارف بكل شيء” أن العلم والمعرفة ليستا حكرا على أحد وفي زمن “جوجل” الناس سواسية كأسنان المشط، ما لا تعرفه اسأل عنه جوجل أو أحد أخواته وسيأتيك الجواب ولا تترك نفسك مطية للآخرين يملون عليك ما يعرفون، انفض عن نفسك غبار السنين والحق بركب العلم والمعرفة وابحث عن كل شيء وتعلم كل شيء واصنع بنفسك كل شيء ولا تعتمد على غيرك ليلقنك علما ومعرفة فالتجربة خير برهان.
تشدك شخصية “العارف بكل شيء” فهو أنيق مهندم مثقف مطلع مجرب باحث قارئ نهم ومتابع صامت في بعض الأحيان ومتحدث إن لزم الأمر، لا تفوته شاردة ولا واردة تحصل في هذا العالم المترامي الأطراف ابتداء من فناء بيته والشارع الموازي لجاره وانتهاء بتطورات كورونا ولقاحاتها المثيرة للجدل ومستقبل الاقتصاد في ظل تردي أسعار النفط والمرحلة الراهنة التي تمر بها البلاد والعالم ومتى ستحصل الانفراجة وتعود الحياة إلى طبيعتها.
جلست مع بعض “العارفين بكل شيء” فاستمعت إلى تحليلاتهم في شتى نواحي الحياة، وولجت عوالمهم الاجتماعية والافتراضية وحللت شخصياتهم المزدوجة والمفبركة والمنفصلة في بعض الأحيان، لا أنكر أنني استفدت من بعض معارفهم ولكنني خسرت كثيرا من الاستماع اليهم، أهدرت أوقاتا ثمينة كان من الممكن أن استفيد منها لو أنهم تركوني لحال سبيلي من دون ثرثرة أو أنني تركتهم لحال سبيلهم بإعطائهم آذنا صماء.
استمعت مرة إلى حديث لفيلسوف هندي شخَّصَ شخصية هذا العارف بمن يصنع الشاي الكرك في بلاده، فما أن تطلب منه كوب شاي حتى يبدأ في الحديث عن كل شيء ابتداء من السياسة إلى لعب الكريكيت مرورا بالاقتصاد وفي النهاية تكتشف أنه هو نفسه لا يعرف أو لا يتقن صناعة الشاي بدقة واحترافية.
فئة “العارفين” المفتين بكل شيء صغيرة لكنها تكبر كل يوم بفعل عوامل عديدة، لكنها في الأصل محدودة ومحصورة في أعداد محددة من الناس هي التي وصفها الفيلسوف الهندي بممن لا يجيدون صنعتهم فما بالك بصنعة غيرهم، كلامهم كثير وعملهم قليل، ينشغلون بأمور الآخرين وينسون أمورهم الخاصة، يكسرون مرآتهم الخاصة التي يرون بها أنفسهم ويستبدلونها بمرايا خارجية لمراقبة الآخر والتطفل عليه، ينشغلون بالعالم ويهملون عالمهم، ثرثرتهم تهدم أكثر مما تبني.
لو انشغل كل عارف بما يعرف لكانت الدنيا في أحسن حال، ولو اهتم كل عارف بشؤونه وترك شأن الآخر لكان العالم بصورة أفضل، ولو أبقى كل عارف نظره مقتصرا على شأنه ولم يتطاول بالنظر على شأن الآخر لكانت الحياة أسعد وأجمل، ولو تكلم كل عارف بما يعرف ولم يهرف بما لا يعرف لكانت النفوس أصفى وأسلم ولو كنت أنا ذاتي استطيع التمييز بين العارف والمختص لكان يومي وغدي أفضل من أمسي وقبل أمسي.
انتبهوا من العارفين فهم موجودين في كل شبر وزاوية في واقع الحياة وفي عوالمها الافتراضية ولا تعطوا “العارفين” أكبر من حجمهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع