التخطي إلى المحتوى الرئيسي

وهم الحرية


هذا الطرح ليس بالجديد في تبيان وشرح العلاقة بين الحرية ونقيضها ولا أقصد هنا المعنى الضيق لمعنى الحرية بتمثلها في الصحافة أو حرية التعبير أو حرية الكتابة ونقيض ذلك مما يسمى بمقص الرقيب أو بتحقيق الرقيب حتى وان كنا قد احتفلنا قبل أسبوع بيوم الصحافة وحريتها الذي مر من دون أن يكترث له أحد، وأيضا لا أنظر إلى الصورة الأكبر منها في حرية الإنسان واسترقاقه كما كان يحصل في الماضي ولا يزال في كثير من المجتمعات المتحضرة منها والمتخلفة، كما أنني أيضا لا أعني أو أشير بذلك إلى العلاقة بين الإنسان وخالقه ومدى مراقبته لربه في حياته وسؤاله بعد مماته، لكنني هنا أثير تساؤلا أكبر قليلا عن ما تعنيه الحرية للإنسان ومتى يشعر هذا الإنسان بأنه حر؟ ومتى يشعر بأنه غير ذلك؟ وما هي حدود هذه الحرية؟ ومتى تبدأ؟ وأين تنتهي؟
لن ألجأ إلى اقتباسات الشعراء والكتاب والأدباء والصحفيين ولا حتى المستضعفين عما قالوه عن الحرية ومعناها، ليس لسبب أنني لا أؤمن بالحرية أو لا أتبناها كمبدأ وخيار للبشرية جمعاء لكنني اعتقد بأننا أسأنا فهم هذا المبدأ الأصيل الذي هو أول مبادئ الحرية الإنسانية التي نص عليها قانون حقوق الإنسان وحملناها ما لا تحتمل وما لا تطيق من حمولة بسبب توهمنا بأن هذا المبدأ يتيح لنا فعل أي شيء أو قول أي شيء أو صنع أي شيء بداعي الحرية المطلقة التي ادعيناها لأنفسنا من تلقاء أنفسنا.
الحياة بدون حرية (الحياة المقيدة) هي أكثر وأكبر من الحياة بالحرية المطلقة. الإنسان في أغلب لحظات حياته يحيا حياة مقيدة خاضعة لقوانين ونظم وأعراف وقيم وتقاليد سواء أكانت من صنع البشر ذاتهم أو هي قوانين وتشريعات إلهية نزلت من السماء لتحد من حرية الإنسان في التمتع بكثير من متع الحياة ومباهجها وهو ما يصطدم وينصدم بصخرة الحريات التي ينادي بها الإنسان. ولعلي لا أغالي في الأمر إن قلت إن الأصل في هذا هو التقييد قبل أن تكون الحرية المطلقة، فالإنسان عند مولده لم يكن له خيار الحرية في اختيار والديه ولا يستطيع العيش بمفرده في هذا الكون بل يحتاج إلى من يقاسمه الحياة وهذا ما يتطلب التضحية بنصف حريته على الأفل كي يستطيع أن يعيش بأمن وأمان واطمئنان.
هل تأتي الحرية أولاً أم يتقدمها نقيضها؟ وهل نعيش في وهم كبير اسمه الحرية؟ مشاهد الحياة اليومية كفيلة بتأكيد أن ليس لنا الحرية الكافية في فعل ما نريد أو ترك ما نريد فكل شيء مقيد بقيود كبيرة فحريتنا في قيادة السيارة في أي اتجاه نرغبه مسلوبة وهي خاضعة لسلطة الشرطة وقانونها وحرية الغدوة والرواح في العمل محدودة بقوانين وتشريعات وعلاقتنا بأهلنا وأولادنا ومن نحب محددة بأمزجة وأهواء وطقوس تحد من حريتنا، حتى الملبس والمأكل والمشرب حريتنا فيه محددة بسمات المجتمع وقيمه وتقاليده، والحرية في التعبير والكتابة والنشر محددة ومؤطرة بقوانين ونظم بشرية من الصعب الانفلات منها.
هناك خلط بين الحرية والعيش في وهمها لدى الناس، ولعل العصر الحديث بوسائله الحديثة في التواصل والتراسل عمقت من هذا الوهم فأصبح الكثير يتوهم أن حريته تبيح له استعمار واسترقاق واستعباد الآخرين، وأن حريته تبيح له قول وفعل ما يشاء دون مراعاة للآخرين ومشاعرهم، وأن له الحرية المطلقة والمباحة في الكتابة والتعبير والسب والقذف والتشهير ونشر الشائعات والدسائس والكذب والتدليس طالما أنه تخفى بغطاء الوهم وتلحف بلحاف الوسائل التي أوهمته بأن حريته مطلقة وهي غير ذلك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع