التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كورونا : جدلية العلم والدين



   إن عطست الصين اصيب العالم كله بالبرد، فعطسة التنين الصيني زلزلت العالم واربكته وقلبته رأسا على عقب. بداية هذه الزلزلة كانت من مدينة ووهان الصينية عندما اجتاحها فيروس صغير عجزت عن رؤيته مجاهر العالم الصناعي المتقدم، ولم يكن في حسبان من اصيب به سوى انه فيروس صغير حاله حال اخوانه من قبله سيمكث قليلا حتى تطلع الشمس ثم يرحل كما رحل من الآخرون، غير أن هذا الفيروس خالف كل توقعات العلم والطب وتوقعات الثورة الصناعية والاقتصادية التي بلغت اوجها وأيضا خالف توقعات المتدينين اللذين لم يدر في خلدهم ولا حدسهم أن الله سيعاقبهم في يوم من الايام بعقاب يحرمهم حتى من اقامة صلاتهم في مساجدهم او الطواف في صحن بيته الحرام.
في هذا المقال سأحاول التعاطي مع هذا الوباء من وجهة نظر مختلفة بعض الشيء، سأحاول دراسة الجدلية القائمة في المجتمع بين العلم والدين وكيفية تعاطي أنصار كل فريق مع هذا الوباء وتأثير هذا التعاطي على المجتمع الذي انقسم الى فئتين او أكثر. فئة المؤمنين بالعلم ممن يمجد ويعلي شأن كل ما هو علمي عقلي وينفي ما يتعارض مع ذلك، والفئة الاخرى النقيضة التي تؤمن أن كل ما يحدث في هذا الكون هو بتقدير الخالق عز وجل وان الانسان يقف مكتوف اليد عاجز ــــ حتى مع علومه المتطورة ـــــ امام قدرة ومشيئة الله في كونه.
يؤرخ لهذا الوباء بأنه أحدث وباء جاء عقب الثورة المعلوماتية وثورة الاتصال والتواصل، فلم تشهد او تحض أوبئة وأسقام من قبل بهذا الانتشار الواسع من المعلومات كما حظي به هذا المرض. فوسائل التواصل الحديث هي الان في اوجها وتنقل ما يحدث في بقاع العالم المختلفة لحظة بلحظة ويمكن للفرد متابعة مجريات وتطورات هذا المرض ساعة حدوثها سواء اكانت بالصين ام بالسودان فالمعلومة تصل للجميع على قدم المساواة ووقت الحدوث لا فضل في ذلك بين غني وفقير طالما كان يمتلك اتصالا بشبكة الانترنيت وتطبيقا اخباريا او تطبيقا لوسائل التواصل الاجتماعي، ولست هنا بصدد الاسهاب في تعداد محامد ومساوئ ثورة الاتصال والمعلومات بقدر محاولتي تتبع المحور الاساس الذي بنيت عليه مقالتي هذه وهي جدلية العلم والدين، ولن يتأتى لي سبر أغوار هذا المحتوى الا بالرجوع الى ما يكتب ويدون وينشر على وسائل التواصل وتمحيصها وتفنيدها بغية  الوصول الى آراء الطرفين حول هذا الوباء سواء أكان غضب من الله ام انه وباء تمر به البشرية مثل كثير من الامراض والاسقام التي تجتاح العالم.
صورة العالم في بدايات العام الفين وعشرين لا تبدو زاهية. حروب تشن بدوافع استعمارية واخرى بدوافع تجارية وغيرها لتجويع شعوب ورابعة لبسط النفوذ، وتتجلى قتامة هذه الصورة في بروز طبقة غنية صغيرة تسيطر على مقدرات ثلثي ثروة العالم واخرى فقيرة لا تملك قوت يومها، شعوب تقاتل من أجل المال واخرى تموت من قلته والكل لاه في ملكوته ودنياه، وفجأة فيروس صغير يطل برأسه من شرق الارض تبدأ اعراضه بزكام بسيط واحتقان في الجيوب الانفية فالتهاب في الرئتين ينتقل بسرعة كبيرة من شخص لآخر بالمصافحة ولمس الاسطح واسماه الاطباء كورونا المستجد (كوفيد 19 ) تميزا له عن باقي أسلافه من سلالات الكورونا وتيمنا بالتاج الملكي لشبهه الكبير بالتاج في شكله، يخرج عن السيطرة ويثير الرعب في كل مكان.
من هنا خرجت الكثير من النظريات التي تفسر انتشار هذا الوباء ومن قمقم وسائل التواصل ووسائل الاعلام انتشرت النظريات كما ينتشر الفيروس بعضها يغلبً نظرية المؤامرة وأن ما حدث ليس له علاقة لا بالله ولا بالعلم وانما هو صراع سلطة وصراع حضارات، صراع تحاول فيه دولة كبرى تركيع أخرى سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وتمتد هذه النظريات الى افتراض ان انتشار هذا الوباء انما هو امتداد لحروب اقتصادية وبيولوجية تقودها شركات ادوية وشركات حكومية للسيطرة على اقتصادات العالم. غير أن كثير من أنصار هذه الافتراضات والنظريات ما لبثوا ان تراجعوا بعض الشيء عن افتراضاتهم عندما بدأت جدية العالم تثبت ان لا غالب ولا مغلوب امام هذا الوباء فالكل قد بدأ في التساقط وحدا تلو الاخر ضحايا لهذا الفيروس الملكي فسقطت معه نظريات المؤامرة برمتها وبدأت جدلية اخرى تطل بوجهها من أن ما يجري انما هو انتقام إلهي من البشرية عما ارتكبته من ذنوب وآثام.
جدلية العقل والدين أو العلم والدين جدلية قديمة اختبرتها البشرية كثيرا على مر تاريخها وعاصرتها وصهرتها كل الحضارات والاديان وباتت سجالات ومناظرات الفريقين مشهدا يطل برأسه بين فينة واخرى فمرة يعلو صوت الدين على صوت العلم والعقل ومرة يكون صوت العلم والعقل أعلى من صوت الدين وهكذا يبقى السجال بين الفريقين محتمدا يظهر مرة ويخفت اخرى معتمدا على مادة الجدل وعنوانها، ولعل المادة الابرز في هذا الجدل هي الحوادث والكوارث والمصائب والامراض والاسقام والاوجاع التي ما تكون دائما مادة دسمة للجدل فكان صوت الدين فيها يعلو على صوت العلم لانتشار الجهل والامية والفقر فكل شيء كان يرد الى الله ومشيئته النافذة في الارض وفي السماء، وفي المقابل ومع تطور العلوم وتقدمها حسمت كثير من الجدليات لصالح العلم وبات صوت العقل والعلم أعلى من صوت الدين والمتدينين.
وفي جدلية هذا الوباء الذي نحن بصدد الحديث عنه عاد السجال من جديد بين الفريقين ولكنه هذه المرة ظهر بقوة في العوالم الافتراضية ووسائل الاعلام فانتقل الجدل الدائر بين الطرفين من جدل المجالس والمناظرات الى جدل منصات التواصل والتراسل واصبح الكل مدعوا للمشاركة في هذا السجال والادلاء بصوته سواء أكان عالما بما يقول ام جاهلا وهنا برزت الجدلية القديمة او ما كان يعرف بالسفسطة ( هو مذهب كلامي اغريقي اتهم بتمويه الحقائق مع فساد المنطق) فكثر الكلام والجدل حول اسباب الوباء وطرق الشفاء هل يكون الله هو المنقذ للبشرية أم أن العلم قادر على اختراع لقاح ومصل يقي شرور هذا الوباء؟ وهل العلم ذاته هو من تسبب في الاصل في هذا الوباء أم أن الله أرسله لتكفير خطايا البشرية؟
  أنصار المدرسة الدينية ذهبوا في بدايات ظهور هذا المرض بأنه عقاب إلهي للعصاة من الكفار وابتلاء في ذات الوقت للمسلمين الصابرين، ويجب على المسلم التوبة والاستغفار والفرار الى الله ومحاربة كل ما يعصيه، غير أن هذه النبرة التقليدية في التفسير والتأويل ما لبثت أن تلاشت بعض الشيء وخرجت أصوات معتدلة من هذه المدرسة تنادي بأن كل ما يحدث للإنسان هو بأمر من الله وأن الامراض والاسقام هي بيده عز جل مستشهدين بذلك بالمدرسة المحمدية في تعاملها مع الطاعون والبقاء في المكان الموبوء حتى يرتفع الوباء مع تطبيق العزل والحجر الصحي والحث على ترك التجمعات والتجمهر حتى وان كان يترتب على ذلك ترك صلاة الجماعة في المسجد او تعطيل سنة الجمعة المقدسة أو تعليق زيارة بيت الله الحرام والطواف بكعبته الشريفة.
المدرسة العلمية منذ البداية حددت موقفها من هذا الوباء وهو أنه مرض يصيب الانسان وينتقل بالعدوى ويمكن أن يسبب الوفاة داعين الى اتخاذ كثير من الاحتياطات لتجنبه والعمل مخبريا على انتاج لقاح أو مصل للحد من تأثيره على البشرية، متناسين في الأصل نظريات المؤامرة او قصص الانتقام الرباني من البشرية على ما تفعله من ذنوب وخطايا، ولم تلتف كثيرا الى ما تقوله وتدعيه المدرسة الدينية.
في حالتنا هذه أرى أن كفة المدرسة العلمية هي من رجحت وعلت أصواتها في حين خفتت أصوات المدرسة الأخرى التي سلمت بأن الوباء هو من الله واكتفت بالدفاع عن بعض مبادئها المتمثلة في أن الدين لا يتعارض مع العلم وأن الدين يشجع العلم والعلماء على البحث عن أسباب العلاج وتجنب تعريض النفس للتهلكة. ولو أردنا بشيء من التعمق والتفصيل البحث في أسباب  خفوت أصوات هذه المدرسة بشكل عام لعددًنا عدد من العوامل لعل أهمها الثورة المعلوماتية ووسائل التواصل ذاتها التي تحدثنا عنها في بداية مقالنا هذا والتي تمثلت في تعدد المنابر المتاحة لكل الافراد للتعبير عن آرائهم بكل حرية وثانيها الانفتاح الكبير الذي اتاحته تلك الوسائل على العديد من الثقافات وعلى الأخص الثقافة الغربية التي أبهرت الكثير من الشباب المسلم والعربي الذي لم يكن متاحا له فيما مضى الاحتكاك والاطلاع والانغماس في الثقافة الغربية بكل ملذاتها وثالث هذه العوامل هي الحروب الناعمة والخشنة التي تشن على المتدينين في كل أنحاء العالم ولن اسهب هنا في تعداد عوامل ضعف المدرسة الدينية فهذا البحث بحاجة الى مبحث آخر.
خلاصة القول، أن البشرية لم تختبر في تاريخها كله بوباء مثل هذا من حيث الانتشار الكمي والمعرفي للفيروس وللمعلومات المصاحبة له، ولم يحسم جدل العلم والدين كما حسم في هذا الوباء بمنتهى السهولة والسلاسة واعتقد بأن البشرية سوف تؤرخ لأحداثها ب ما قبل كورونا وما بعد كورونا، وأجزم هنا في ختام مقالي بأن جولة أخرى من جولات المدرستين ستعود الى الظهور ولكن هذه المرة في حادثة أكبر من حادثة الفيروسات المميتة.

عبدالله بن سالم الشعيلي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع