التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من يراقب الفساد



   ربما تكون من أصعب الكلمات التي يمكن أن تجد لها تعريفا محددا لدى الناس، فبخلاف ما تورده المعاجم ودلالات اللغة من تعريف لها، إلا أن جذورها يصعب الوصول إليها ويختلف فهمها من شخص لآخر ومن مجتمع لغيره، فما يطلقه هذا على ذاك بأنه "فاسد" قد لا يفسره ال"ذاك" على أنه هو عين ما قصده ال"هذا".
هنالك وضوح في بعض مفاهيم الفساد لا يمكن أن تنكر أو تغطى أو يستر عنها، وهنالك أيضا كثير من المفاهيم التي يختلف في وصفها ونعتها باختلاف الشخوص والمواقف والحاجات والمطالب، ولا يمكن لكثير من العامة أن يصدر فتواه في أمر الفساد إلا بعد أن يخضعه للتمحيص والبحث والتحقيق والرقابة عليه من قبل جهات مختصة تمتلك الأدوات والمقومات والأسس المساعدة في تعريفه.
وصفت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتي وقعت عليها كثير من دول العالم   ( الفاسدة وغير الفاسدة) وصفت الفساد بأنه "ظاهرة خبيثة توجد في جميع البلدان صغيرها وكبيرها، غنيها وفقيرها إلا أن تأثيرها في العالم النامي يكون أكثر تدميرا وهو يضر بالفقراء حيث أن الأموال المخصصة للتنمية لا تذهب إلى مسارها الصحيح، ويؤدي الفساد إلى التحيز والظلم وهو عنصر رئيسي في تدهور الأداء الاقتصادي للأمم الفاسدة".

 وتعزيزا لهذا القول فان تقريرا صادر عن منظمة الشفافية العالمية نشرته وكالة رويترز نهايات العام المنصرم أشار إلى أن أكثر الدول في معدلات الفساد عالميا هي الصومال وكوريا الشمالية وأفغانستان تلتها السودان وجنوب السودان وليبيا فالعراق، في حين أشار التقرير إلى أن أكثر الدول شفافية وأقلها فسادا هي الدنمارك ونيوزيلندا ثم فنلندا والسويد والنرويج وسنغافورة.
أيا كانت صحة هذا التقرير إلا أنه يدعم ويثبت مقولة أن الفساد مرتبط بالفقر لان لا وجود لكثير من المؤسسات والمنظمات المتخصصة في مراقبة الفساد في تلكم البلدان وانه لا توجد لديها أيضا الكثير من القوانين والضوابط والأسس والتشريعات وحتى التقنيات التي يمكن من خلالها مراقبة الفساد.
إذا كيف يمكن مراقبة الفساد؟
سأعرج قليلا على بعض قضايا الفساد المالي والإداري التي يحاكم فيها هذه الأيام بعض الشخوص ممن حاموا حول الحمى وممن وقعوا فيه بالفعل، وردود فعل من قضى أجله ومن ينتظر دوره في المحاكمة ومن كانت توسوس له نفسه الأمارة بالسوء بتعاطي بعضا من جوانب الفساد وارتدع عن ذلك خوفا من حكم البشر قبل حكم رب البشر، لنخلص من ذلك أن إحدى طرق مراقبة ومعالجة الفساد والمفسدين تكون بالمحاكمة والمواجهة وأن يكون القانون والعدالة هي الفيصل في الحكم على من أدين بتهم تتعلق بالفساد بشقيه.
ولكن هي يكفي القانون لردع هؤلا؟ أعني أن القانون يأتي في النهاية لتطبيق العقوبة على من خالف وهذا أمر جيد بأن تكفل القوانين والتشريعات تنفيذ أقصى العقوبة بحق من أدين بهذه التهم أيا كان منصبه ومركز المالي والاجتماعي، ولكننا قبل هذا نحن بحاجة إلى مراقبة مستقلة من جهات تمتلك المقومات الفنية والتقنية والإدارية التي تكفل لها مراقبة كل ما يجري في مؤسسات الدولة المختلفة ومحاولة تجنب الكثير من الأخطاء التي يمكن تصحيحها قبل الوقوع في الخطأ.
التقيت مرة شخص أعرفه فقادنا الحديث إلى قضايا الفساد والمفسدين والمحاكمات فاسترسل هو في حديث عما يجري في مؤسسته التي يعمل بها ومدى ما يشهده هو بعينه من فساد إداري يقوم به بعض ذوي النفوذ في تلك المؤسسة ولكنه يقف مكتوف اليد عاجز عن القيام بأي شيء سوى الدعاء إلى الله بأن يخلصهم من شرور تلك المفاسد لأنه يخشى إن قام بأي عمل أن يتهم بأنه واش أو متآمر ضد من يعمل لديهم. أرشدته إلى طريقة تضمن السرية التامة له ولبياناته الشخصية إن قام بالإبلاغ عن ذلك من خلال الموقع الالكتروني لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة والذي يضمن له الحماية والسرية التامة له ولما يدلي به من معلومات إن ثبت صحتها.
ما أردت الوصول إليه مع هذا الشخص هو أننا نحن أنفسنا من يجب عليه مراقبة الفساد في ذواتنا أولا وفي ذوات الآخر ثانيا، وأن لا نتخوف أو ننحاز في ذلك لان مؤسسات الدولة والحكومة لا يمكنها وبدون مبادرة منا نحن أن تراقب أو تكافح كافة الفساد والمفسدين.
كما ذكرت اتفاقية الأمم المتحدة ان الفساد مرتبط إلى حد كبير بفقر وتخلف البلدان ومكافحته مرتبطة بتقدم ورقي تلكم البلدان، ونحن إن أردنا لأنفسنا ولبلادنا أن تبتعد عن التخلف وتلحق بركب الحضارة والمدنية علينا أن نراقب الفساد في أنفسنا وفي الآخرين.
منشور بجريدة عمان 
http://main.omandaily.om/?p=67981

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع