التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الرضى والسخط

حضرت مجلسا اجتمع فيه شخصان يعملان في جهة عمل واحدة أولهما يلهج بالشكر والثناء على مسؤوليه ممن وضعوه في منصب تكليف لا تشريف له كما يقول هو، والآخر لسانه لا يذكر بخير اولئك المسؤولين ممن أخذوا منه منصب التكليف ذاك وأعطوه لآخر هو برأيه أقل خبرة ودراية وتجربة منه.

ارتسمت على وجهي علامات العجب من ذانك الصديقين، ترى هل أصدق الراضي أو كما قال عنه صديقه المرضي عنه أو أصدق الآخر الساخط أو المسخوط عليه، فكلاهما يسوق الحجج والادلة والبراهين على ما يقوله ومايوقنه من كلام، أم أن حديث كلاهما نابع من لحظ الموقف والموقع ولو تغير أيا منهما لتغير مجرى حديث الشخص بما يتناسب والمكانة التي يتبوأها.

نحن نمارس الرضا والسخط في حياتنا كل يوم وفي كل شىئ، فلو رضينا عن شىئ فإن لسان الثناء سوف يسبق لسان السخط والذم والقدح والعكس من ذلك صحيح، فلو سخطنا على شىء أو عن شىئ فإن الفاظ المدح والثناء سوف تختفي من كلامنا وكأن لسان الحال يعبر عنه قول الشاعر العربي بقوله وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا.

ممارستنا لمبدأ الرضا والسخط لا ينسحب فقط على حياتنا الفردية بل يتعداها ليشمل كل الممارسات اليومية، فنحن نحب من أرضانا وأسعدنا وأعجبنا بكلامه وصدقناه، ونبغض من خالفنا الرأي وتسبب في شقاء بعضنا ولم يعجبنا كلامه ولا أفعاله، فنحن بطبيعة تكويننا نميل الى تغليب العاطفة على العقل في كثير من الامور، فنصدق ما يقوله فلان عن فلان لدرجة تصل الى بغضه وكرهه فقط لمجرد أن فلانا لا يحبه أو تحدث عنه بكلام غير لائق والعكس من ذلك، فقد نمدح ونحب آخرا لان غيره امتدحه أمامنا أو أثنى عليه وقال فيه كلاما حلوا المذاق، فنحن نحب ذاك المحبوب لان آخرا قد أحبه فوجب علينا محبته.

نحن عاطفيون لدرجة كبيرة تصل الى حد السذاجة كما قال بعضهم، يمكن أن يؤثر فينا لسان أحدهم فنهب هبة رجل واحد لنجدته، أو نتخلى عن آخر هو محتاج الى النجدة والنصرة لمجرد أن ذلك الآخر قرع على آذاننا بكلام أثر على عاطفتنا فتركتنا لا نقوى على نصرته أو حتى الاستماع الى مظلمته.

نحن لا نحكم العقل فيما نسمع ونبصر، وقد تكون هذه سمة اختص بها العرب دون سواهم من أمم الارض وشعوبها، عقولنا لا نستخدمها للتمييز بين ما هو نافع وضار، بين ما هو صالح وطالح، بين ما هو خطأ وصواب،بين من يقول حقا وبين من يدعي باطلا. مشاعرنا هي من يحكم أفعالنا،تحركنا العاطفة لا العقل، نتأرجح بين العقل والقلب فنغلب القلب على العقل،وهذا ربما هو ما جر علينا الكثير من الهوان والضعف والانسياق للآخر الذي استطاع تسخير تلك العاطفة في اشعال فتنة بين الأخ وأخيه، بين الابوإبنه، بين الرجل وزوجه.

ما نشهده اليوم في وضعنا العربي الذي انقسم على نفسه بين راضوساخط، مؤيد ومعارض، قاتل ومقتول، ما هو إلا نتيجة طبيعية لتغليب صوت العاطفة على صوت العقل، هو اتباع لهوى النفس والقلب على العقل والرشد. إعتقدنا أن من علا صوته فهو على حق، ومن ضعف ذلك الصوت لديه فهو على باطل، من قام خطيبا في الناس مستنهضا عاطفتهم فهو ومن معه على حق ومن آثر الصمت والسكون والدعة فهو على الباطل، من استخدم وسائل الدعاية المختلفة ووصل الى الناس فهو أحق أن يتبع ومن لم يصل فهو على غير ذلك.

صرنا الى حال يلهج فيه الراضي بآيات الشكر والثناء على من أرضاه ويصب جام الغضب على من خالفه، وإن انقلبت يوما موازينه فسوف يبدلتلك النغمة الناشزة الى نغمة شاكرة إن فقط رضي عنه وأُرضي.


منشور بجريدة عمان http://omandaily.com/?p=20468


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع