التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إيران: سفر عبر التاريخ والحضارة

  خيوط الفجر تتسلل إلى هذه البقعة من الأرض، نسمات باردة تهب من أقصى الشمال حيث بقايا ثلوج شتوية بدأت بالذوبان من أعلى قمم جبال البرز، وسيارتنا تشق طريقها الطويل من مطار الخميني الدولي إلى وجهتنا في فندق يتربع على زاوية في قلب العاصمة طهران قال لنا مرشدنا محسن سالم الذي يتقن العربية تماما إنه بني قبل حوالي أربعين عامًا، ويجاوره أكبر حديقة تتوسط العاصمة تحمل ذات الاسم. من نافذة غرفتي أطلت النظر إلى برج ميلاد، وهو يعانق السحب بطوله الفارع ويناطح بقامته العالية تلك الجبال المكسوة بياضًا والتي لطالما حرست العاصمة الثانية والثلاثين لإيران بعد أن قرر الملك القاجاري آغا محمد خان نقل العاصمة من شيراز إلى طهران في عام 1795.

طهران أو كما تلفظ بالفارسية تهران وتعني بذات اللغة الأرض المنبسطة التي تتموضع على سفوح جبال البرز العملاقة، مدينة مكتظة بكل شيء بالبشر والعمران والتاريخ. سكانها يصل عددهم إلى عشرين مليون نسمة من أصل ثمانين مليونا يتوزعون على باقي مدن ومحافظات البلاد، مدينة لا تعرف الهدوء والراحة حتى في منتصف الليل وساعات الصباح الأولى هي مزدحمة ومكتظة ومرجع ذلك يعود إلى تمركز الكثير من مقومات الصناعة والتجارة والاستثمار والسياحة والثقافة فيها، وهي أيضًا موئل وموطن لكثير من العرقيات التي استوطنت المدينة كالفرس الذين يمثلون خمسة وسبعين في المائة من سكانها إضافة إلى وجود عرقيات أخرى كالعرب والأرمن والبلوش والأكراد والأذار وبها كل أديان السماء الإسلام والمسيحية واليهودية وأقامت عليها بعض «الأديان» الأخرى كالزردشتية والبهائية وغيرها.
زيارتنا للجمهورية الإسلامية الإيرانية كانت ضمن وفد إعلامي، تقاطعت مع دخول رأس السنة الشمسية أو ما يعرف بالنيروز أو (النورزو) وتعني بالفارسية يوم جديد وتبدأ مع بداية الانقلاب الربيعي في الحادي والعشرين من مارس بالتقويم الميلادي، حيث ترتدي الأرض أجمل حلتها وتزدهر باللون الأخضر القشيب وتبدأ الزهور بالتفتح. ويجل الإيرانيون هذا اليوم ويحتفلون به في طقوس تمتد لأسبوعين لعل أبرزها إعداد طاولة توضع عليها سبعة أشياء تبدأ بحرف السين باللغة الفارسية وتحمل معاني العشق والولادة والحظ والبركة والسلامة والسيادة والشفاء، كما تحرص الأسرة على قراءة بعض من أبيات ديوان حافظ الشيرازي شاعر إيران العظيم تيمنا به حيث وصف النيروز في كثير من أشعاره.
حكم أمير النيروز قصير
خمسة أيام لا أكثر
والقمر إذا ناح على أغصان البان
حزينا يشبهني.
الرحلة تكاد تبدأ، يبهرك مشهد الناس في الشوارع رجالاً ونساءً، الكل في كامل أناقته وانسجامه، شعب يعيش في وئام مع الآخر، لا وجود لتعصبات بينهم جل ما يسعون إليه العيش بسلام وأمان واطمئنان مع أنفسهم وجيرانهم، يرحبون بالجميع ويسعون إلى تقديم العون والمساعدة للغريب إن احتاجهما.
«خوش آمديد» بهذه الكلمة الفارسية رحب بنا مضيفنا من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي حسين انتظامي وترجمها لنا مترجمنا بـ«أهلا وسهلا بكم»، رددنا عليه بمثلها، أسهب في حديثه عن علاقات إيران بعمان منذ القدم وحتى اليوم متطرقا إلى جوانب هذا التعاون وسبل تعزيز أواصره، سألناه عن صحافة الجمهورية فأجاب بأنها تربو على المائتي صحيفة ومجلة منها العامة والمتخصصة، ومنها ما هو ناطق بلغتهم الفارسية، ومنها ما هو بلغات أخرى نصيب العرب منها صحيفتان الوفاق وكيهان. التقينا لاحقًا برؤساء تحرير بعض من هذه الصحف فتشاكينا هموم وشجون وشؤون الإعلام والصحافة.
أصر علينا مضيفنا قبل انتهاء رحلتنا لرؤية نصف العالم، قال: إن فاتتكم هذه المدينة فقد فاتكم نصف عمركم فهي «أصفهان نصف جهان» كما يحلو لأهلها التفاخر بها حيث هي لسان الزمان وبهجة المكان وهي المدينة النائمة بحضن الجبل يحرسها من الأعداء، وهي على طريق القوافل التجارية ولأهميتها اتخذها الصفويون عاصمة لهم لأكثر من قرنين من الزمان. هي مدينة يفوح منها عبق التاريخ والحضارة وتستنشق بين جنباتها عطر الجمال والمحبة، قصورها، مساجدها، ميادينها، حدائقها وأسواقها كلها تنبض بالحياة وتبتسم للحياة وللزائر لها، كان لنا فيها يوم وكأنه من أيام الدهر الخالدة، أقمنا صلاتنا في مسجد صفوي يقف اليوم شاهدًا على عظمة امبراطورية شيدت منذ القرن الخامس قبل الميلاد على يد الملك كورش.

عبدالله بن سالم الشعيلي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع