التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فسحروا أعين الناس






        جمعني لقاء بأحد الأخوة السوريين، وكعادتنا نحن العرب  إذا التقينا أن تكون السياسة حاضرة في كل لقاءاتنا لا سيما هذه الأيام خصوصا إذا ما كان الضيف من سوريا العزيزة وتحديدا من أهل حمص. كان ضيفي يدافع وبشدة من أن ما ينقل عبر وسائل الإعلام مجتمعة مبالغ فيه أكثر من اللازم وان الوضع في بلاده لا يحتمل هذا الكلام الكبير الذي يقال عنه، وكنت أنا بحكم إدماني مشاهدة التلفزيون أقول له بأن ما يبث " من حقائق" مؤلم جدا وأن ما ينقل ليس إلا بعضا مما يجري على الأرض.


رغم اختلافنا على أصل القضية، إلا أننا اتفقنا بأن كل طرف من أطرافها النظام الحاكم والشعب الثائر كلاهما يسخرً وسائل الإعلام لخدمته والمشاهد يبقى تائها يصدق من ويكذب من. وهذا هو حال كل القضايا في كل العالم، كل فريق يحاول أن يسخر وسائل الإعلام لصالح قضيته ويقنع جمهوره بأنه على الحق وغيره على الباطل.


استحضرت قصة موسى عليه السلام وفرعون عندما جمع فرعون السحرة من كل مصر ليثبت لموسى بأن ما جاء به لا يعدو كونه سحر يمكن لسحرته أن يأتوا بما هو أكبر وأعظم منه. وفي اليوم الموعود ألقى سحرة فرعون عصيهم وحبالهم فتحولت إلى أفاع صغيرة سحرت أعين الناس وحسبوها بأنها حيات تسعى ولكنها في الواقع الحقيقي هي ليست أكثر من حبال وعصي.


سحرة فرعون في ذلك الزمان هم اليوم مالكي وسائل الإعلام والمسيطرين عليها، فالسحرة الجدد يحاولون بكل الطرق والوسائل إقناع الجمهور بأن ما يقدمونه لهم من مواد منشورة ومبثوثة على الهواء بأنها هي الحقيقية ولا شيء غير الحقيقة حتى وان كانت هذه الحقائق هي في الأصل حبال وعصي هزيلة لا تقنع من يعرف حقيقتها بأنها تزوير وقلب للحقائق فقط وان الحقيقة هي دائما ما تكون على أرض الواقع لا ما تنشر في وسائل الإعلام.


لعل التاريخ يشهد بأن أكبر السحرة في القرن الحديث هو الزعيم النازي أدولف هتلر الذي استخدم سلاح الدعاية والإعلام لتثبيت دعائم حكمه مبررا للناس أسباب غزوه لجيرانه والحروب التي شنها على العالم، فمرة أجاب هذا الزعيم الساحر " بأنه بالاستخدام المتواصل والماهر للدعاية فان المرء يستطيع أن يجعل الجحيم يبدو مثل الجنة وان يجعل الحياة البائسة تبدو كالنعيم" ، وان الدعاية ووسائل الإعلام قد أوصلته إلى الحكم، وبالدعاية حافظ على مراكزه ، وبها سوف يستطيع غزو العالم كله ".


أعداد السحرة الجدد في تعاظم وتكاثر فالساحر الجديد ليس بحاجة إلا إلى سوى بعض المبالغ المالية وجيش من الأتباع ينفذون ما يقوله لهم ساحرهم، وقد لا يحتاج إلى ذلك كله، فوسائل الاتصال الحديث مكنت كل فرد منا أن يصبح ساحرا يستطيع قلب الحقائق وتزويرها واتهام الناس وإلصاق الفتن والدسائس بهم بمجرد أن ينشر ما يراه هو بأنه يخدم مصالحه ويقضي على مصالح الآخرين.


سأسوق لكم قصة شاهدتها على بعض القنوات الفضائية المصرية، عندما ثارت ثائرة الشعب المصري في قضية بنت من المتظاهرين قام الجيش بسحلها – كما يقول الفيديو المنشور- إلا أن شريط فيديو آخر نشر على صفحات الانترنيت يبين أن هذا الكلام عار من الصحة وإنهم لم يتم المساس أبدا بالبنت المتظاهرة.


أيا كانت صحة هذا الفيديو أو ذاك ولكن ما يثبت أن السحرة الجدد يستطيعون تغيير الحقائق حسب سياستها الإعلامية وهذا ما تقوم به كل وسائل الإعلام في أي بلد كان سواء بلد متقدم أم متخلف. كل وسيلة أو حتى فرد لديه أجندة أو توجه أو سياسة يلتزم بها عندما يقوم بنشر أي شيء على وسيلته الإعلامية، فالهدف الأول والأخير من قيام وسائل الإعلام التقليدية والحقائق هي سحر أعين الناس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برس

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج

إجازة

صديق من الصين الشعبية التقيته بعد انتهاء عسل الإجازة السنوية سألني عن عدد أيام الإجازة السنوية التي يستحقها الموظف العامل في المؤسسة الحكومية في السلطنة فقلت له ببساطة شديدة هي تختلف باختلاف الدرجات والمسميات لكنها في الأغلب لا تقل عن شهر كامل، جحظت عيناه الصغيرتان أصلا من صدمة ما قلت فردد من خلفي شهر كامل؟ قلت نعم وهذا لصغار الموظفين فما بالك بكبارهم! فأردفت على جوابي سؤال له عن أيام إجازاتهم الصينية السنوية فأجاب بصوت خافت لا يكاد يسمع: هي لا تزيد عن العشرة أيام، فانتقلت الدهشة منه إليَّ فقلت بشيء من الانفعال عشرة أيام فقط! هذه لا تكفي حتى للذهاب إلى فنجاء التي هي قريبة من مسقط. زاد هذا اللقاء من شغفي للبحث في الإجازات السنوية للأمم والشعوب والقبائل فوجدت العجب في ذلك، فبعض الدول لا تقر قوانينها الحصول على أيام إجازة سنوية مدفوعة الأجر وأن رغب الموظف بذلك فسيتم خصمها من رصيده المالي كما تفعل ذلك الولايات المتحدة المتقدمة في كل شيء إلا في نسبة حصول موظفيها على إجازاتهم، حيث ينظر رب العمل والموظف ذاته في تلك البلاد القاصية إلى الإجازة على أنها ترف زائد لا داعيَ له ومن يسرف في التمتع