من المحبط حقا أن تجد أن
وظيفتك التي أفنيت فيها زهرة شبابك وتتكسب من ورائها لقمة عيشك وعيش أبنائك هي
اليوم من المهن العشرة المهددة بالانقراض وأنك ستصير عما قريب مخلوق مهدد
بالانقراض وسيكون حالك حال الديناصور الذي تكالبت عليه مهالك الزمان والمكان فأصبح
رميما في الارض، ومما يدعو للكآبة والاحباط معا أن يصنفك مكتب العمل الامريكي من
ضمن فئات المهن الدنيا التي لا يوصى ولا ينصح بها لانها من المهن التي لن يجد
ممتهنا لقمة عيش يقتات ويقيت أولاده بها إن هو استمر وأصر على ممارستها رغما عن
التحذيرات المتتالية للابتعاد عنها، تلك هي يا أعزائي مهنتي مهنة الصحافة التي
وصفها الاقدمون بأنها السلطة الخامسة وصاحبة الجلالة ومرآة المجتمع تقارن اليوم
بمهن الحطاب والطباخ وحراس السجون وسائقي سيارات الاجرة.
ليس هذا ما أثار حفيظتي من
كلام اعتدنا عليه نحن الصحفيين الورقيين من أفواه بعض أعدائنا القادمين إلينا من
الشاشات المسطحة التي لا يعرف أصحابها الكثير عن العالم الحقيقي سوى تبشيرنا في كل
شاردة وواردة بأن فترات بقائنا على هذا الكوكب معدودة وفرص بقائنا في مهنتنا هذه
مفقودة، ولكن ما أثار حفيظتي ورفع عقيرتي هو ما تداولته الانباء من سلوك بعض رؤساء
تحرير الصحف الورقية وطلبهم من صحفييهم القيام بتوزيع الجريدة وتوصيلها الى
المشتركين والمساعدة في خدمة
العملاء والاتصال شخصيا بالمشتركين توفيرا للنفقات
واستغناءا عن خدمات شركات التوزيع التي تكلف مالا كثيرا .
رئيس التحرير الغير محبوب
من زملائه برر فعلته تلك بأنها غير معتادة وأنه هو أيضا يشعر بالإحباط مثل باقي
الصحفيين من هذا الامر ويعتقد بأن هذا الاجراء مؤقت حتى تتجاوز صحيفته ضائقتها المالية، قائلا
بأن الهدف من كل ما يقوم به هو ضمان حصول القارئ على صحيفته في أول الصباح.
هذه الواقعة سيسجلها
أعدائنا علينا، وسيغردون بصوت عال من أن أوان تقاعدكم قد حان، وعليكم حزم حقائبكم
وقفل دفاتركم وكسر أقلامكم وسيصدحون بأعلى الصوت بأن الساحة باتت خالية إلا منا نحن
الشجعان، وسنبقى نحن نردد قاتل الله الازمة المالية وسعر الخام المنخفض التي تسببت
في حرماننا من مورد الاعلان وتراجع المبيع من ورق الصحف وتسببت في كثير من الازمات
النفسية والاحباطات والتصنيفات الغير منصفة وأطلقت لسان كثير من الشامتين على
حالنا الذي وصلنا اليه.
كنت في السابق أراهن على
بقاء الورق حيا ما دام الشجر حيا فكلاهما من الارض والى الارض، وكنت أراهن أيضا
على أن بقائنا مرتهن ببقاء القلم ورسالته وما لم نشهد نهاية للقلم فلن نشهد
بالتالي نهاية للورق، وكنت أقول أن الورق بكل أشكاله وألوانه وكتبه ودفاتره وصحفه
لن يختفي من على وجه البسيطة، ولكنني اليوم أعود الى نفسي قليلا وأراجعها من أن كل
شىء في الوجود ممكن التحقق ويمكن أن يأتي يوم لا نجد فيه ورقا ولا قلما بل مجرد
ألواح صماء لا روح فيها ولا حياة يمكنها أن تحل محل الورق النابت من الشجر كما حل
الانسان الآلي محل الانسان الناطق في كثير من المهن والاعمال التي استغنت عن خدمات
البشر لتلجأ الى خدمات من لا يتأفف أو يستكبر عن أي عمل، ولا أملك في هذه الخاتمة
الا أن أترحم على أمجا الصحافة والصحفيين وأتمنى أن يدوم هذا الحال وأن لا نضطر في
يوم من الايام بقسر من أحد أن بيع صحفنا على ناصية الشارع.
تعليقات