التخطي إلى المحتوى الرئيسي

يوميات صحفي مكتئب

من المحبط حقا أن تجد أن وظيفتك التي أفنيت فيها زهرة شبابك وتتكسب من ورائها لقمة عيشك وعيش أبنائك هي اليوم من المهن العشرة المهددة بالانقراض وأنك ستصير عما قريب مخلوق مهدد بالانقراض وسيكون حالك حال الديناصور الذي تكالبت عليه مهالك الزمان والمكان فأصبح رميما في الارض، ومما يدعو للكآبة والاحباط معا أن يصنفك مكتب العمل الامريكي من ضمن فئات المهن الدنيا التي لا يوصى ولا ينصح بها لانها من المهن التي لن يجد ممتهنا لقمة عيش يقتات ويقيت أولاده بها إن هو استمر وأصر على ممارستها رغما عن التحذيرات المتتالية للابتعاد عنها، تلك هي يا أعزائي مهنتي مهنة الصحافة التي وصفها الاقدمون بأنها السلطة الخامسة وصاحبة الجلالة ومرآة المجتمع تقارن اليوم بمهن الحطاب والطباخ وحراس السجون وسائقي سيارات الاجرة.
ليس هذا ما أثار حفيظتي من كلام اعتدنا عليه نحن الصحفيين الورقيين من أفواه بعض أعدائنا القادمين إلينا من الشاشات المسطحة التي لا يعرف أصحابها الكثير عن العالم الحقيقي سوى تبشيرنا في كل شاردة وواردة بأن فترات بقائنا على هذا الكوكب معدودة وفرص بقائنا في مهنتنا هذه مفقودة، ولكن ما أثار حفيظتي ورفع عقيرتي هو ما تداولته الانباء من سلوك بعض رؤساء تحرير الصحف الورقية وطلبهم من صحفييهم القيام بتوزيع الجريدة وتوصيلها الى المشتركين والمساعدة في خدمة العملاء والاتصال شخصيا بالمشتركين توفيرا للنفقات واستغناءا عن خدمات شركات التوزيع التي تكلف مالا كثيرا .
رئيس التحرير الغير محبوب من زملائه برر فعلته تلك بأنها غير معتادة وأنه هو أيضا يشعر بالإحباط مثل باقي الصحفيين من هذا الامر ويعتقد بأن هذا الاجراء  مؤقت حتى تتجاوز صحيفته ضائقتها المالية، قائلا بأن الهدف من كل ما يقوم به هو ضمان حصول القارئ على صحيفته في أول الصباح.
هذه الواقعة سيسجلها أعدائنا علينا، وسيغردون بصوت عال من أن أوان تقاعدكم قد حان، وعليكم حزم حقائبكم وقفل دفاتركم وكسر أقلامكم وسيصدحون بأعلى الصوت بأن الساحة باتت خالية إلا منا نحن الشجعان، وسنبقى نحن نردد قاتل الله الازمة المالية وسعر الخام المنخفض التي تسببت في حرماننا من مورد الاعلان وتراجع المبيع من ورق الصحف وتسببت في كثير من الازمات النفسية والاحباطات والتصنيفات الغير منصفة وأطلقت لسان كثير من الشامتين على حالنا الذي وصلنا اليه.

كنت في السابق أراهن على بقاء الورق حيا ما دام الشجر حيا فكلاهما من الارض والى الارض، وكنت أراهن أيضا على أن بقائنا مرتهن ببقاء القلم ورسالته وما لم نشهد نهاية للقلم فلن نشهد بالتالي نهاية للورق، وكنت أقول أن الورق بكل أشكاله وألوانه وكتبه ودفاتره وصحفه لن يختفي من على وجه البسيطة، ولكنني اليوم أعود الى نفسي قليلا وأراجعها من أن كل شىء في الوجود ممكن التحقق ويمكن أن يأتي يوم لا نجد فيه ورقا ولا قلما بل مجرد ألواح صماء لا روح فيها ولا حياة يمكنها أن تحل محل الورق النابت من الشجر كما حل الانسان الآلي محل الانسان الناطق في كثير من المهن والاعمال التي استغنت عن خدمات البشر لتلجأ الى خدمات من لا يتأفف أو يستكبر عن أي عمل، ولا أملك في هذه الخاتمة الا أن أترحم على أمجا الصحافة والصحفيين وأتمنى أن يدوم هذا الحال وأن لا نضطر في يوم من الايام بقسر من أحد أن بيع صحفنا على ناصية الشارع.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها ...

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج...

الأشجار تموت واقفة

تروي لنا الحكايات انه في جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادي أنهم اذا أرادوا اقتطاع شجرة فان القبيلة تجتمع من حولها وتاخذ في لعنها وبعد ايام تموت الشجرة. هكذا وردت هذه العبارة على لسان الممثل الهندي عامر خان في فيلمه " الطفل المميز" أو بالهندية ان أصبت نطقه فهو " تاري زامن بار" Taare Zamen Par . ويتحدث الفيلم عن طفل صغير لديه صعوبات في التعلم ولا يستطيع تمييز الحروف من بعضها وليست لديه المقدرة على الفهم كباقي زملائه وأقرانه مما جلب عليه سوء معاملة من والده أولا ومن معلميه ثانيا، غير أن مدرسا للفنون كان قد اصيب بمثل هذا المرض من قبل شخص حالة هذا الطفل وبدأ في علاجه واقناع الجميع بأنه طفل مبدع مبتكر لا سيما في الرسم. حالة هذا الطفل وغيره من الاطفال تشخص اليوم على أنها نوع من مرض التوحد وتتمثل أعراضها في الانعزالية وعدم التواصل مع الاخرين واضطرابات في النوم والاكل والشرب وغيرها من الاعراض، وقد يصاب المرء بالعجب عندما يقرأ بأن عددا من المخترعين والمفكرين والادباء والفنانين التشكيلييين العالميين كانوا مصابين بهذا المرض من أمثال موتسارت وبيتهوفن ومايكل أنغل...