التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حارة عمانية قديمة


اضافة الى الكتب فإن العمارة والمباني الأثرية التي تركها لنا الاجداد هي من الشواهد التاريخية على حياة الامم والشعوب ودليل على تمدنها وتحضرها، وتمكننا دراسة هذه الشواهد من معرفة أسلوب حياة الشعوب والامم ومدى الوعي والتحضر الذي وصل اليه ذلك المجتمع في فترات التاريخ المختلفة.
لم نعرف عن حضارة عمان وتاريخها إلا من خلال تلك الشواهد التاريخية التي يعود البعض منها الى الالف العاشر قبل الميلاد، ولم نتعرف على براعة المهندس المعماري العماني الا من خلال تصميماته الحربية والمدنية المتمثلة في القلاع والحصون والبيوت الاثرية. فتصميمات العمارة الساحلية في عمان تختلف في نمطها وشكلها وفنونها عن تصميمات العمارة الجبلية أو عن تصميمات العمارة السهلية وعمارة التحصينات الدفاعية تختلف عن عمارة المساجد والقصور التي تمتاز بزخرفتها ونقوشها الاسلامية البديعة.
حارات عمان القديمة لا تزال الى اليوم منتصبة في كل قرية صغيرة كانت أم كبيرة حتى وإن بدأ البعض منها بالاندثار والتهدم بسبب الاهمال وعوامل الطقس المؤثرة وعدم الوعي المجتمعي بأهمية هذا الارث الحضاري، إلا أن المتجوال داخل هذه الحارات يلحظ بشكل لافت براعة التصميمات الداخلية والخارجية التي أجاد المصمم المعماري في تطبيقها على أرض الواقع. فالحارة العمانية كانت بمثابة مدينة متكاملة يكوًن فيها الفلج مع السوق والمسجد ثلاثي متقابل يخدمون سكان القرية التي تتوزع  فيه بيوتهم بشكل طولي وعرضي تتخلها أزقة وممرات تضيق وتتسع حسب حاجة السكان ومساحة المكان، كما تضم الحارة بعض القاعات التي يلتقي فيها أهل الحارة صباحهم ومسائهم في أفراحهم وأتراحهم فهي بمثابة مكان عام لللالتقاء وهي السبلة التي تجمع سكان الحارة صغيرهم وكبيرهم، وهنالك أيضا قاعات وأماكن للبيع والشراء ومحلات ودكاكين تجارية مختلفة تؤجر لاهل القرية وغيرها من المباني الواقعة داخل الحارة التي غالبا ما يطوقها سور كبير يمتد من بدايتها حتى أطرافها.
ما دفعني للكتابة عن الحارات العمانية، زيارة قمت بها الاسبوع الفائت الى نيابة سناو التي كما قال لي مرافقي أنها تحضى بشهرتين أولهما بسوقها الشعبي كونه من الاسواق القليلة التي لا تزال تحتفظ بهويتها العمانية وثانيهما بشهرة شيخ العلم فيها الشيخ حمود الصوافي الذي يحج اليه طلبة العلم من كل مكان في عمان للنهل من علمه الذي لا يقصى.
حملني مرافقي في جولة لنيابته الجميلة التي تحفها أشجار النخيل الباسقة التي اغتسلت للتو من مطر الشتاء فبدت خضراء يانعة يسقيها فلج يجري في سواقي فاضت منه، الى أن أوصلني الى حارته التي شهدت ميلاد طفولته ورددت جدرانها أولى صراخاته وشهدت أزقتها وحواريها مرابع شقاوته، وعرف مسجدها أولى صلواته الخمس، وتعلم في مدرستها قواعد النحو والاعراب وحفظ قصار السور من القرآن، وباع في سوقها سمنا ونباتا وأشياء طفولية أخرى، حتى أوصلني الى رسم خطه أحد الهالكين لا يزال باقيا حتى اللحظة يؤرخ لهذه الحارة الى عام 661 هجرية كما كان يكتبه السابقين برقم لا نقول عنه اليوم بأنه عربي وإنما من الارقام الاوردية حيث يشير الرقم الى أن هذه الحارة يعود تاريخها حسب المنقوش على جدرانها الى أكثر من سبعمائة وسبعين عاما وربما أكثر من ذلك بكثير.

ما أحزنني في هذا المشهد هو تداعي وتهالك هذه الحارة الجميلة بأسقفها الموشاة والمزخرفة بنقوش إسلامية جميلة وأبوابها الخشبية الزاهية الالوان ومداخلها القوسية التي تحمل كتابات ونقوش غاية في الروعة تشهد على تاريخ من سكنوا في تلك الحارة وتعارفوا على تسميتها بالاسم الذي لا تزال تحتفظ به الى اليوم "حارة الصواوفة".

قديما قالوا " من ليس له ماض فليس له حاضر أو مستقبل" وإن كانت هذه العبارة صادمة بمعايير التحضر والتقدم في عصرنا هذا الذي لا يعترف جيله بكثير من قيم الاصالة والتراث إلا أنها صادقة في مضمونها فلن تستطيع أمة أن تخلق لها حضارة ما لم تكن تستند على إرث حضاري أو شاهد أثري حتى وإن كان حارة قديمة.
http://omandaily.om/?p=336739

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها ...

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج...

الأشجار تموت واقفة

تروي لنا الحكايات انه في جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادي أنهم اذا أرادوا اقتطاع شجرة فان القبيلة تجتمع من حولها وتاخذ في لعنها وبعد ايام تموت الشجرة. هكذا وردت هذه العبارة على لسان الممثل الهندي عامر خان في فيلمه " الطفل المميز" أو بالهندية ان أصبت نطقه فهو " تاري زامن بار" Taare Zamen Par . ويتحدث الفيلم عن طفل صغير لديه صعوبات في التعلم ولا يستطيع تمييز الحروف من بعضها وليست لديه المقدرة على الفهم كباقي زملائه وأقرانه مما جلب عليه سوء معاملة من والده أولا ومن معلميه ثانيا، غير أن مدرسا للفنون كان قد اصيب بمثل هذا المرض من قبل شخص حالة هذا الطفل وبدأ في علاجه واقناع الجميع بأنه طفل مبدع مبتكر لا سيما في الرسم. حالة هذا الطفل وغيره من الاطفال تشخص اليوم على أنها نوع من مرض التوحد وتتمثل أعراضها في الانعزالية وعدم التواصل مع الاخرين واضطرابات في النوم والاكل والشرب وغيرها من الاعراض، وقد يصاب المرء بالعجب عندما يقرأ بأن عددا من المخترعين والمفكرين والادباء والفنانين التشكيلييين العالميين كانوا مصابين بهذا المرض من أمثال موتسارت وبيتهوفن ومايكل أنغل...