تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال
كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص
تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين
الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا
مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ
في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء
افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم
واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به
من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي.
أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة
بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت
أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت
أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان
الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برسائل من نوع آخر، رسائل
نصية هاتفية كانت تشق أولى خطواتها نحو الفضاء المفتوح، كانت الردود تصل بسرعة
أكبر من سرعة ما أرسله من ورق.
عندما أرجع اليوم الى أوراقي وصوري التي
أرسلتها، ترتسم على ثغري ابتسامة عريضة ممزوجة بدمعة بسيطة احبسها من الخروج، أري
أولادي تلك الصور والتعليقات التي خلدتها برسالة ورقية ولم أرسلها برسالة هاتفية
فقدت بعد عدة ساعات من ارسالها.
اليوم، انقلبت رسائلنا وهي كحال حياتنا رأسا على
عقب، في هذا العالم المتسارع لم يعد الشخص منا يملك الوقت ليخط رسالة بيمينه على
ورقة بيضاء، ويغلفها في مظروف ليضعها في صندوق بريد وينتظر الرد عليها. لذا ساءت
خطوطنا كما ساءت حياتنا. رسائلنا اليوم سريعة كالحياة، فيها كثير من الاختصار،
تكتب في أقل من عدد من الثوان وتحذف في نفس ذات السرعة، نرسل آلافا من الرسائل
المتسارعة ويصلنا رد على آلاف الرسائل المتسارعة.
نبدأ
أول صباحنا وبعين مغمضة بتفقد رسائل الجوال ورسائل البريد الالكتروني ورسائل
الواتس أب وغيرها من الرسائل التي نقرأها قبل أن "نحمد ونشكر من رد علينا
الروح وعافانا في الجسد"، نقرأ بنصف عين رسائل المحششين وأخبار السكارى،
وأخبار حوادث الزمان، نصحو على رسائل العمل ومتطلباته وما ينبغي القيام به في ذلك
اليوم، نقبل صداقة من أرسل لنا طلبا للصداقة، نرد على من علق على تعليقنا، نستعرض
رسائل البريد الالكتروني الكثيرة، ثم بعد أن ننتهي من كل هذه الرسائل الفارغة في
المضمون نتذكر أن نسمي باسم الله ونحمده.
تمنيت الذهاب الى صندوق بريد لافتحه وأجد رسالة
مكتوبة بخط اليد من شخص أعرفه أو لا أعرفه، أقف بجانب ذلك الصندوق قبل الذهاب الى
البيت لقراءة مضمون الرسالة، اشتقت الى كتابة رد بخط اليد أيضا على تلك الرسالة.
اشتقت الى رسالة في صندوق البريد بخط اليد تطلب مني الصداقة بدلا من طلبها
الكترونيا. اشتقت الى اختيار الوقت الذي أقرأ فيه الرسائل بدلا من الوقت الذي
تختارني هي فيه. اشتقت كثيرا الى ذلك الزمان.
تعليقات