بعد أن انتقلت الى قسم آخر غير القسم الذي كنت أعمل به، وتربعت على كرسي
المدير الجديد الوثير جاء الموظفون للتهنئة الذين نشأوا وترعروا في ذلك القسم
وأفنوا زهرة ونخلة ورحيق عمرهم في ذلك السرداب – كما قال أحدهم مرة – بدأت مراسم
تقديم الولاء والطاعة للمدير الجديد والتمنيات له ولهم بطيب الاقامة وحسن العشرة
في السراء والضراء.
في أول اجتماع عقدته مع الموظفين
الجدد لمعرفة خبايا وتفاصيل وأسرار العمل الذي يقومون به، كنت انظر الى عملهم
اليومي الروتيني بمنظور غير الذي يرونه به، فهم قد أصبحوا لا يرون شيئا يذكر من
حسنات أو سيئات هذا العمل أو ذاك بعد أن لبسوا وتلبسوا بعملهم اليومي - وهذا ما
أعتقده يحدث في كل عمل حكومي أو حتى عمل خاص ما لم يكن التغيير والتحديث هي السمة
التي تميز بيئة العمل- فجاءت كل ملاحظة أبديها أو أي تعليق أقوله بأنه هو الكلام
الصحيح وأنه هو فصل الخطاب وسيتم من على الفور تطبيق ما قال وأمر به المدير.
ما توصلت اليه من نتيجة لدى هؤلا
الموظفين وغيرهم ممن يعمل لدى الحكومة بأن الموظف البسيط ليست له أية كلمة ولا
يمكنه اقتراح أو عمل شىء ما في مجال عمله ما لم مبرمجا له وبالتالي يتبرمج هو على
ذلك العمل، وتأتي هذه البرمجة من رب عمله الاعلى منه أي المدير أو الرئيس فالكل
يشتغل بأمر وتوجيهات الرئيس الاعلى أيا كانت هذه البرمجة صحيحة أم خاطئة تحقق
الهدف أم تحيد عنه، فالموظف البسيط كما يقول المثل الشعبي " عبد المأمور"
كما يقال له يفعل وكما يوجه يفعل ولكن بشرط أن لا يحيد في التفكير عما ُرسم له ولا
يحاول أن ُيعمل عقله أو لبه في ابتكار ما يمكن أن يسهل على الآخرين من بني البشر
حياتهم.
هذه الفوقيه في العمل انتشرت في كل
عالمنا العربي، الفكر فكر المدير، العقل عقل المدير، وعلى الجميع الالتزام بذلك
وعدم الحيد عنه، ومن سولت له نفسه تغيير ما هو قائم فسوف يجد نفسه هو من تغيًر الى
مكان آخر وسيكون حاله حال الكثيرين ممن حاولوا التغيير في حياتهم العملية ووجدوا
أنفسهم مركونين في كراسي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل من مكانها.
بذلت جهودا كبيرة لاقناع موظفي
الجدد بأن " حرية التعبير" مكفولة للجميع بنص الدستور والكتاب والشرائع
السماوية وأن ما يقولونه من اقتراح أو نقد لوضع قائم سوف لن يخرج من اطار جدران
المكتب ولن يعرف عنه الا نحن وسوف نتدارسه ونحاول تطبيقه ونجدد فيه و.. و.. و ...،
الا أن كل ما قلت ذهب مع الريح كما تقول رواية مارغريت ميتشيل ووجدت نفسي بأنني
اللاعب الرئيس في ذلك الملعب فقررت عندها أن أكون أنا المدير ويكون كل ما أقوله
وأتفوه به هو ما ينفذ حتى بدون أن أقصد.
تعليقات