ومنكم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ
لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [سورة الحج: آية 5]
هل يمكن للمرء منا أن
يتخيل أنه في يوم من الايام سوف يصاب بمرض ينسيه اسمه أو اسم زوجته التي قضى حياته
معها أو اسم أحد ابنائه أو أعز أصدقائه، ويمتد هذا النسيان ليصل إلى نسيان الاحداث
والمشاهد التي مر بها طوال حياته؟.
يكتب الراحل غازي
القصيبي في آخر ما خلفه لنا قبل رحيله اقصوصة اسماها " زهايمر" هي عبارة
عن مجموعة من الرسائل كتبها «يعقوب» الى زوجته
نرمين، من المصح الأميركي الذي يخضع فيه للعلاج من مرض «الزهايمر»، تصل الى زوجته بعد
وفاته إثر جلطة في القلب، وقد أرسلها اليها طبيبه الامريكي في المشفى الذي يتعالج فيه.
النقاد أشاروا الى
أن هذه الرواية " الاقصوصة" هي تعبير شخصي عن الحالة التي وصل اليها
الراحل القصيبي ذاته واصابته بمرض الزهايمر، وهروبه من هذا المرض إلى بلد آخر لا
يعرف فيه أحدا كي يتفادى آفة النسيان التي سببها له هذا المرض.
يكتب لزوجته عن ذلك " هذه
الفكرة، على الأخص، هي التي تسبب لي الكآبة. أن أصبح رجلاً بلا ماضٍ، بلا ذكريات،
بلا أمس. تصوّري! أن ينسى الإنسان ابتسامة أمه المضيئة، أن ينسى ملامح أبيه
الرضيّة، أن ينسى كل صديق عرفه أن ينسى اسم زوجته".
ينسب هذا المرض الى الطبيب الالماني ألزهايمر الذي اكتشفه في العام 1906 ومن
ذلك اليوم سمي باسمه، وهو كما يعرفه الاطباء بأنه "داء
يصيب المخ ويتطور
ليفقد الإنسان ذاكرته وقدرته علي التركيز والتعلم. وقد
يتطور ليحدث تغييرات في شخصية المريض فيصبح أكثر عصبية أو قد يصاب بالهلوسة أو
بحالات من حالات الجنون المؤقت"
يخبرني صديق أن والده بعد أن بلغ من العمر أرذله أصيب بهذا المرض مما شكل
للعائلة بأكملها الكثير من الحرج أمام الآخرين لان والدهم لم يتمكن من تذكر الكثير
من الامور مثل أسماء بعض أصدقائه وأولاده، بالاضافة الى فقدانه للاتجاهات والطرق
فكان إذا خرج من البيت خلسة لا يستطيع الرجوع اليه الا اذا قام أحد الاشخاص في
القرية بإرجاعه الى بيته، بالاضافة الى أنه لم يقو على ممارسة الكثير من العادات
التي كان يمارسها في مزرعته وفي أحيان كثيرة يصل به الامر الى أن يقوم بطرد أولاده
من البيت بحجة أنهم غرباء قد دخلوا بيته بدون اذنه.
يقول هذا الصديق، على الرغم من فقدان أبيه لذاكرته الحديثه، إلا أن ذاكرته
القديمة لا تزال جيدة، فهو لا يزال يتذكر كثير من سنوات شبابه وطفولته، ويتذكر
كثير من اصدقائه القدامى اللذين رحلوا عن هذه الدنيا، ويتذكر سنوات سفره واغترابه،
ويتذكر وبكل دقة وتفصيل أيام زواجه الاولى وأول أبنائه، حتى بعض ملامح طفولته
وعلاقته بأبيه وأمه لا يزال يتذكر بعضا منها.
لا شىء في هذه الدنيا يوازي الذاكرة، فإن فقدت فقد الانسان فيها هويته
وكينونته وشخصيته وأصبح حاله يرثي لها الكثير، ويتمنون أن لا يصل بهم المطاف في
هذه الدنيا الى أرذل العمر لكي لا يعلمون بعد علم
شيئا.
تعليقات