التخطي إلى المحتوى الرئيسي

خارطة ورمل واسمنت


 
  قبل ثلاثين عاما، قرر والدي بناء بيت " حديث" بمصطلح ذاك الزمان، لم يكن بحاجة الى تفكير عميق لتحديد ما هو بحاجة اليه في منزل أحلامه، رسم خارطته في عقله بعدد الغرف والمدخل والمخرج، وقام بتطبيق ذلك على أرض الواقع بأن وضع خطوطا على الارض حدد فيها موضع الغرف والمجلس والمطبخ. اتفق بعدها مع مقاول وأفهمه ما أن ما يريده مرسوم أمامه على الارض، وما عليه سوى تنفيذ الخارطة الارضية والحرص على أن لا تندثر أو تمحى بفعل عوامل التعرية.
جلب أبي الاسمنت والرمل والحديد وكافة مستلزمات البناء، وبدأنا نحن الصغار في مراقبة ذلك البناء الضخم وهو يقوم يقوم على أرض الواقع، في اشادة منا بمهنية وحرفية العمال والمقاول الذي لا يستطيع أحد آخر غيره تشييد مثل هذا البنيان المرصوص.
جاء دوري أنا لبناء منزل " حديث" بمفهوم هذا الزمان، لم تنفع خارطة أبي في رسم منزل أحلامي، حتى وإن حاولت رسمها على ورق وجهاز حاسب آلي، لان بيوت اليوم صارت من التعقيد أكبر من أن ينفذها الشخص " غير المختص" وأن يحدد عدد الغرف والمداخل والمخارج.
لجأت الى استشاري مختص برسم الخرائط، وساعدته بشرح ما أرغب فيه من احتياجات لمنزل الاحلام، وقام هو بتطبيقه على أرض الواقع في خارطة شارحة مفصلة لكل صغيرة وكبيرة للبيت. توجهت بعدها لمقاول محترم - يندر في هذه الايام وجود أمثاله- وجلبت كما أبي الاسمنت والرمل والحديد واشياء أخرى اضفتها للبيت الجديد كي يصبح شكله أجمل وافضل وأرقى من منزل طفولتي.
بناء بيوتنا ما بين الحاضر والماضي هو ذاته بناء مؤسساتنا، كثير من مؤسسات بلادنا ساهمت فيما مضى في بناء الدولة بدون أن تكون لها تلك الخطط وخرائط الطريق الكبيرة التي تستند عليها، ربما لم تكن بحاجة في ذلك الوقت الى أكثر من الوقوف على أرض الواقع ووضع خطوط عليها والبدء في التنفيذ الفوري والسريع لكل تلك الخطط.
اليوم، لم تعد تلك الخطط تنفع لهذا الزمان، كما لم يعد التخطيط يتم بالوقوف على أرض الواقع ورسم خارطة ارضية لموقع المشروع والبدء بتنفيذه، فقد باتت الحياة أكثر تعقيدا من ذي قبل وأصبحت الحاجة ملحة الى خرائط تفصيلية ورسم استراتيجيات وخطط بعيدة المدى يمكن أن تتنبأ من خلالها بما سيكون عليه الوضع خلال عشر سنوات قادمة أو أكثر.
لا زالت بعض مؤسساتنا وأخص الحكومية منها والى اليوم تعمل بدون خطة أو استراتيجية وكأن ما كانت تقوم به العام الماضي هو ذاته ما ستقوم به العام المقبل وهو نفس الشىء ستقوم به العام الذي يأتي بعده وهكذا، بدون أن تضع في اعتبارها أن العالم بات متغيرا وأن متطلبات هذا العصر تختلف كثيرا عن العصر الذي سبقه وأن متطلبات هذا الجيل حتما تختلف وتتنوع عن متطلبات ورغبات الاجيال السابقة.
الاسمنت والرمل هما المكون الرئيس لبيت طفولتي وبيتي الحالي ، إلا أن ما يفرق بينهما هو عدم وجود خارطة وتخطيط للاول وتواجدهما في الثاني وهو ذات الامر ما ينطبق على بعض المؤسسات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها ...

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج...

الأشجار تموت واقفة

تروي لنا الحكايات انه في جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادي أنهم اذا أرادوا اقتطاع شجرة فان القبيلة تجتمع من حولها وتاخذ في لعنها وبعد ايام تموت الشجرة. هكذا وردت هذه العبارة على لسان الممثل الهندي عامر خان في فيلمه " الطفل المميز" أو بالهندية ان أصبت نطقه فهو " تاري زامن بار" Taare Zamen Par . ويتحدث الفيلم عن طفل صغير لديه صعوبات في التعلم ولا يستطيع تمييز الحروف من بعضها وليست لديه المقدرة على الفهم كباقي زملائه وأقرانه مما جلب عليه سوء معاملة من والده أولا ومن معلميه ثانيا، غير أن مدرسا للفنون كان قد اصيب بمثل هذا المرض من قبل شخص حالة هذا الطفل وبدأ في علاجه واقناع الجميع بأنه طفل مبدع مبتكر لا سيما في الرسم. حالة هذا الطفل وغيره من الاطفال تشخص اليوم على أنها نوع من مرض التوحد وتتمثل أعراضها في الانعزالية وعدم التواصل مع الاخرين واضطرابات في النوم والاكل والشرب وغيرها من الاعراض، وقد يصاب المرء بالعجب عندما يقرأ بأن عددا من المخترعين والمفكرين والادباء والفنانين التشكيلييين العالميين كانوا مصابين بهذا المرض من أمثال موتسارت وبيتهوفن ومايكل أنغل...