تدفقت الى رأسه الصغير ذكريات كان قد نسيها، لكنها في هذه اللحظة تلح عليه بقوة لتخرج من مكمن عقله الباطن الى عتبة رأسه الصغير، لم يبد مقاومة في منعها من التحرر من ربقة سجنه الذي ظل يحبسها فيه طوال سنين عديدة، فهي في هذه اللحظة تخفف عنه بعضا من آلام ظهره الذي يعاني من تشظي في العظام كما يعاني هو من تشظي في ذاكرته.
ذكريات طويلة، رسمت على جبينه خطوط انعقدت بداياتها مع نهاياتها. بداياتها ذنب قديم حمله أقرب الناس اياه، قدومه الى هذه الدنيا عجل بوفاة أمه، أو كما كان يهيأ لخالته بان مولده كان نذير شؤوم للعائلة، ماتت أمه عقب شهر من مولده وألقت بحمل تربيته وأخوانه الخمسة عليها، كانت في حالات غضبها تحمله ذنب رحيل والدته عن هذه الدنيا ويقف هو عاجزا عن فهم ما تقوله خالته من كلام.
كان يلجأ الى صمته وعزلته كجدار الطين في بيتهم القديم عندما كان يسمع منها هذا الكلام المتشائم، تخنقه العبرة والشعور بالذنب ولم يكن ليستطيع الرد على خالته التي كان يناديها بأمي تلك الام التي لا يدري الى هذا اليوم كيف رحلت وكيف كان هو سببا في رحيلها.
لم تسعفه ذكرياته في تخيل شكل أمه أو هيئتها الحقيقية، وان كان يراها كل يوم ويقرأ السلام عليها من داخل محفظته السوداء التي يحتفظ فيها بصورة لها بالابيض والاسود تقطعت أطرافها من كثرة ما يقبلها ويسلم عليها، كان يتذكر كلام خالته على لسان أمه "هذا الولد سيكون شقيا، منذ ولادته لم يتوقف عن الصياح "، تخنقه العبرة فيعيد المحفظة بما فيها الى جيب دشداشته.
على سريره في المستشفى الذي يعج بالكثير من الأسرة والمرضى، يسترجع شريط ذاكرته، هل يا ترى قلب الوالدة هي من تنبأ بمستقبله يوم مولده من انه سيحيا شقيا طوال عمره، وسيعجل برحيلها وبرحيله أيضا، أم انها كانت تداعبه بتلك الكلمات القاسية كما تداعب كل أم مولودها الفرحة به.
قطرات المطر المنسكبة على شباك سريره الذي اختاره ملاصقا للجدار، سحبت منه ابتسامة جاءت عفوية صادقة، ذكرته بموسم المطر في قريته التي أرتحل منها، لكن هذه الابتسامة لم تلبث أن تلاشت من على ثغره ليحل محلها عبوس وانقباض.
المطر نعمة ونقمة كما يقول، رائحة المطر تذكره بوالدته المرحومة وبرواية خالته التي أخذت في ذلك اليوم الممطر تسرد له قصة وفاة والدته.
ـ كانت ذاهبة الى الفلج وبدأت الغيوم البيضاء تتشكل من فوقنا الى ان انفتقت عن مطر حمل البشر الى قريتنا بزوال سنوات من القحط والجفاف، همت بالعودة الى البيت وفي طريقها وقعت على ظهرها وسقط ما كانت تحمله ولم ينتبه اليها الا " البيدار" عبيد الذي كان يسقي صرمه..
لم أتمكن أو لم اشأ الخلاص من حضن عمتي التي طوقتني بيديها وضمتني الى صدرها بقوة وحنان وزادت في ذلك عندما وصفت لي حالة أمي التي حملوها من " الشريعة" الى بيتنا وهي في حال شبه اغماءة من أثر السقطة المدوية على الارض الصخرية، لم تتمكن بعدها من معرفة أي أحد الا طفلها الصغير ذو الشهر والنصف فارقت بعدها الحياة تاركة ورائها أرضا خصبت بماء المطر وحزنا عميقا انغرس في نفوس أهل القرية جميعا.
منذ ذلك اليوم كرهت المطر، لأنه يحمل لي رائحة من كانت سببا في قدومي الى الحياة وكنت سببا في رحيلها كما تقول خالتي، وزاد من كرهي له أنه السبب في رقدتي هذه التي لا أملك أملك فيها الا الحملقة في السقف من فوقي ليلا ونهارا.
أبنتي شهد ذات ذات الشهر الاول، تقف على رأس في سرسري الحديدي، بمقدمها بدأت أتصالح مع المطر فقد أنستني فقد والدتي. شهد تشبه أمي كثيرا- كما تقول خالتي- فهي تذكرها بالمرحومة، وجهها دائري ينتهي بذقن مدبب فمها مستدير مكتنز وعيونها سوداء واسعة كعيون ظباء المها هكذا كان وصف خالتي ولم أدر أكانت تصف المرحومة أمي أم ابنتي شهد فالاثنتين كما قالت يحملان نفس الخصال.
كما رسخت في رأسه رواية خالته، سكنت إلى جانبها روايته هو، والقاسم بينهما المطر، مطر غزير أعاد الِبشر الى الناس ورسم حزنا عليه منذ عشرين عاما، هو نفسه اليوم يرسم البِشر على الناس ويرسم حزنا أبديا على وجهه.
يتذكر رسالة صديقه عبدالله على هاتفه النقال " الشباب قرروا غدا الذهاب إلى رحلة لوادي السحتن" رد عليها ايجابا وترحيبا، وبدت السيارة التي تقلهم الى الوادي تترنح طربة بالمشاهد الجميلة والمياه المتدفقة، الى أن إنقشعت السماء عن غيوم بيضاء ما لبثت أن انهمرت مطرا غزيرا.
بدأ في التوجس من تلك الغيوم، وبدأ جميع من حوله منتشيا برائحة المطر الممتزجة بتراب الارض، وبدأ صديقه عبدالله في الضغط على دواسة البنزين لسباق المطر.
هذا كل ما أذكره من رحلة وادي السحتن.
ترى هل صدقت نبوءة والدتي عندما قالت لخالتي يوم مولدي بانني سأكون شقيا؟ وهل صدقت خالتي عندما قالت لي بانني عجلت برحيلها! وهل تصدق باقي التنبؤات التي يقولها الاطباء عن حالتي وأنا ممد على سرير في المستشفى أطلب رحمة من الله من أثر سقطة مدوية على أرض صخرية من جراء حادث أليم لم أتسبب فيه؟.
كل السيناريوهات الماثلة أمام عيني تقف ضدي، عجلت بوفاة أمي وكان عمري شهر وها أنا اليوم أعجل بيتم ابنتي شهد وعمرها شهر، انتقلت أمي الى الرفيق الاعلى أثر سقطة مدوية على أرض صخرية وها أنا اليوم في هذا السرير أتألم من هذه نفس تلك السقطة المدوية. المطر قاسمنا المشترك أنا وأمي وهو قدرنا، ترى هل يتغير طعم المطر هذه المرة عن المرة السابقة؟ أم أنه يحمل نفس الطعم، طعم المرارة يبدأ من الحلق ليصل الى القلب.
هل يا ترى تتشابه النهايات ...؟
تعليقات