التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السطر الأخير

 

عبدالله بن سالم الشعيلي.

@ashouily

جدلية جديدة من جدليات الحياة بدأت تطل برأسها " هل القراءة هي السبيل الوحيد للمعرفة أم أن بدائل أخرى أمكنها أن تحل محلها؟" سؤال يحترم عقل صاحبه شريطة أن يقوم بالتدليل على حجته نقلا وعقلا وأن يدعمها بتفسير شاف وكاف لمعنى البدائل الأخرى.

يقول صاحب الحجة أن الانسان ليس بحاجة الى القراءة بعد اليوم، فالتطورات الحاصلة في بعض التقنيات مكنته من تحصيل المعرفة والعلم والثقافة دون المرور على كتاب يقرؤه أو مطبوع يطالعه فهذه التقنيات اختزلت علوم الاولين وفكر المتأخرين وأدب الراحلين وثقافة المعاصرين، ويستند صاحب الحجة في جدليته هذه الى بعض العناصر التي يمكنها أن تدعم حجته كالصوت والصورة مثلا في كونهما مثالين واضحين وبارزين على قدرتهما على منافسة الكتابة والورق، فبفضل هاتين التقنينين وغيرهما من التقنيات الأخرى لم تعد المعرفة حكرا على القراءة والتأليف بشتى فنونه العلمية والأكاديمية والأدبية أو حتى الكتابة الصحفية، كما لم يعد الكاتب ومن شاكله في ذات الصنعة واشترك معه في فعل الكتابة هو من يملك اليد الطولى في تكوين المعرفة والثقافة والعلم.

حتى هنا تبدو حجة صاحبنا صائبة فلم يقل أحد من المتأخرين غير ذلك وإن كان المتقدمين من قبل قد قالوا بأن الكتاب هو خير جليس وأفضل رفيق وأن صحبة الكتب خير من صحبة الرجل وأن أوفى الأصدقاء لا يخون صاحبه ولا يفشي سره ويفوز جليسه بالحكمة والمعرفة وأنه أي الكتاب خير وطن يلجأ اليه الفرد ان ضاقت عليه الأوطان والنفوس. غير أن حجة المتأخرين التي يعضدها قول صاحبنا تقول أن خير جليس اليوم بات مقطع فيديو وخير مؤنس صار مقطع صوتي يختزل كثيرا من آثار الاولين وعلومهم في مساحة بسيطة ترفع فوق سحابة افتراضية يمكن مشاهدتها أو الاستماع اليها في كل وقت وكل حين وفي كل زمان وفي كل مكان.

يركن صاحب الحجة في حجته الى تغير الأحوال وتبدل الأيام ويراهن على ما يقول من أن الزمان كفيل بتغيير أنماط كثيرة في الحياة منها نمط المعرفة وتلقي العلوم التي لم تعد حكرا على نوع معين من المعارف أو الشخوص كالكتاب والادباء والباحثين ومن شاكلهم فثورة هذا العصر وسمت بأنها ثورة المعرفة حيث تعملقت فيها كثير من المعارف وتشعبت كثير من الدروب وتعددت وتنوعت وسائل الحصول على المعرفة والعلم لعل بدايتها كان في مقاطع صوت أو فيديو لكنها اليوم تجاوزته الى ما هو أبعد من ذلك بكثير.

ربما كان بيت القصيد في هذا الجدل المحتدم هو ما أراد صاحب الحجة قوله في السطر القادم من أن كثيرا من مشاهير عوالم الافتراض صاروا صانعي معرفة أو كما يسمون أنفسهم اليوم بصانعي المحتوى وهم خير من يمثل هذا الجيل وخير رسول ينقل العلم والمعرفة للآخرين بطرقهم المتفردة في الشرح والتفسير والتبسيط وهم لا يقلون شئنا أو قيمة عن الكتاب والادباء والعلماء وإن اختلفت وسيلة التدوين لديهم من وسيلة تقليدية كالكتاب الى وسيلة حديثة كتقنيات الصوت والصورة وغيرها.

بشيء من الزهو والغرور والانتصار لحجته، يشهر صاحبنا في وجهي بعض الأرقام والحقائق الداعمة لحجته تراجع حاد وملحوظ في القراءة والكتابة والكتاب والادباء وانحسار للمعرفة المحصلة بالطرق التقليدية وارتفاع حاد فاق التوقعات في تحصيل العلم والمعرفة والثقافة والآداب بشتى فنونها بالوسائل الحديثة التي يتربع الهاتف والحاسب على عرشها وارتفاع كذلك في صانعي المعرفة الحديثة بشتى اصنافهم وأطيافهم وألوانهم وثقافاتهم ومللهم ونحلهم باختلاف ما يقدمون من محتوى.

تبقى النهايات مفتوحة ويبقى الرهان قائما وتبقى كل الجدليات قائمة حتى يثبت عكسها، هكذا ختم صاحب الحجة مقولته ووضع نقطته قبل نهاية السطر الأخير.

https://www.omandaily.om/?p=841781 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها ...

الكفر الحلو

عرضت نفسي لجرعات من القراءة عن الذات وفهم النفس البشرية والعلاقة بين الروح والجسد، قرأت في الكثير من الثقافات والفلسفات الغربية والهندية والفارسية والتركية والعربية لمعرفة ماهية الإنسان والحكمة من خلقه، وعلاقته بخالقه وعلاقة الخالق به، وإلحاده وإيمانه، وتعصبه وتشدده، وعشقه ومقته، ومتى يصل الإنسان إلى المرحلة التي يجاهر فيها بكفره بالخالق. مما وقعت يدي عليه من قراءات كان عن الفكر الصوفي والتصوف في كل الملل والنحل فقرأت بعضا من كتابات الحلاج وابن عربي وأبو حامد الغزالي وقواعد العشق عند جلال الدين الرومي وبعض كتابات العمانيين عن التصوف (كانوا يطلقون عليه السلوك بدلا من التصوف) من أمثال الشيخ ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي في كتابه نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك وهو شرح لتائيتي ابن الفارض وأشعار الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي التي حملت مسحا من السلوك أو التصوف مثل سموط الثناء وعلى باب الكريم وغيرها من الأشعار والقصائد التي حملت حبا وعشقا وهياما في الذات الإلهية. غير أن أكثر ما ترك في ذاتي أثرا كبيرا عن الحب الإلهي هي رواية « قواعد العشق الأربعون، رواية عن جلال الدين الرومي» للروائية الت...

الأشجار تموت واقفة

تروي لنا الحكايات انه في جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادي أنهم اذا أرادوا اقتطاع شجرة فان القبيلة تجتمع من حولها وتاخذ في لعنها وبعد ايام تموت الشجرة. هكذا وردت هذه العبارة على لسان الممثل الهندي عامر خان في فيلمه " الطفل المميز" أو بالهندية ان أصبت نطقه فهو " تاري زامن بار" Taare Zamen Par . ويتحدث الفيلم عن طفل صغير لديه صعوبات في التعلم ولا يستطيع تمييز الحروف من بعضها وليست لديه المقدرة على الفهم كباقي زملائه وأقرانه مما جلب عليه سوء معاملة من والده أولا ومن معلميه ثانيا، غير أن مدرسا للفنون كان قد اصيب بمثل هذا المرض من قبل شخص حالة هذا الطفل وبدأ في علاجه واقناع الجميع بأنه طفل مبدع مبتكر لا سيما في الرسم. حالة هذا الطفل وغيره من الاطفال تشخص اليوم على أنها نوع من مرض التوحد وتتمثل أعراضها في الانعزالية وعدم التواصل مع الاخرين واضطرابات في النوم والاكل والشرب وغيرها من الاعراض، وقد يصاب المرء بالعجب عندما يقرأ بأن عددا من المخترعين والمفكرين والادباء والفنانين التشكيلييين العالميين كانوا مصابين بهذا المرض من أمثال موتسارت وبيتهوفن ومايكل أنغل...