التخطي إلى المحتوى الرئيسي

باعة متجولون

صيف حار وشمس صاهدة بلا شك ولكنها لقمة العيش، كما يقول من وقف على قدميه طيلة نهاره أمام ناصية شارع يبيع خضارا أو فاكهة، يشوي لحما أو يبيع سمكا، يقلي ذرة صفراء أو يتاجر في خرداوات جمعها من هنا وهناك، هذا هو حاله وديدنه منذ أن تطلع شمسه وحتى قبل أو بعد أن تغرب، يأتي شخص ويذهب غيره والحال كما هو، مكان تعارف عليه العامة من الناس بأنه مكان بيع اقتطع من أرض هي ربما ملك لشخص أو جهة ولكنها توفر ملجأ ولقمة عيش كريمة لصاحبها وتوفر في ذات الوقت ثمنا أزهد لمشترٍ عجز عن ابتياع متاعه من باعة لا يرحمون.
هذا هو مشهد الباعة المتجولين والمشترين المتجولين، كلهم مخالفون للقانون والنظام، فلا الباعة ملتزمون بقواعد البيع والشراء والصحة والنظافة، ولا المشترين أيضا ملتزمون بقواعد الصحة والسلامة التي تكون على المحك عند شرائهم لمنتجات لم تخضع لفحوص أو إشراف من قبل جهات الإشراف، ولكن لن يتوقف الباعة وأيضا لن يتوقف المشترون فكل منهم له مصلحة كبرى في الكسب من الآخر وفي ذات الوقت لن تتوقف الجهات المناط بها الإشراف على هؤلاء عن مخالفتهم لارتكابهم جرم العمل بدون تصريح ومنافستهم للباعة الحقيقيين ممن يذهب نصف دخلهم على إيجار وفواتير ومستلزمات أخرى.
هذا الأمر لم أره بعيني هنا فقط، فهو منتشر في كل بلاد الله العربية منها والأعجمية، المسلمة منها والكافرة، هنالك باعة متجولون يسترزقون من القليل ومن عابري السبيل وممن يقصدهم في الليل والنهار وهنالك مشترون ممن لا يحلو لهم إلا الشراء من أولئك الباعة المتجولين لاعتقادهم بأن ما يعرضه هؤلاء للبيع له طعم خاص ومذاق شهي ورائحة زكية وقد لا يتوافر ما يبيعونه في أماكن كثيرة أخرى أرقى وأنظف فهي أماكن توصف بأنها شعبية وترتادها كل فئات الشعب المختلفة.
رأيت مدنا تقوم بتنظيم عمل هؤلاء الباعة وتعترف بهم وبعملهم وتسهل لهم طرق كسبه، ورأيت مدنا أخرى تحاربهم وتضيق عليهم الخناق وتحاول بكل قوة كسر شوكتهم، ورأيت مدنا ثالثة بين هذا وذاك تغض طرفها عن كل هذا ولا تحاول التدخل في أمر البيع والشراء جزما منها بأن هذا المنظر بات سمة من سمات مدينتهم ويميزها عن بقية المدن الأخرى، وبين كل هذا وذاك لن يتوقف الباعة عن بيعهم ولا المشترون عن شرائهم فالبيع والشراء مستمران منذ الأزل وسيبقيان إلى الأبد.
لدينا محاولات لتأطير هذا العمل ومهره بختم الوظيفة وإيجاد تعريف وتصنيف وترتيب له ولممتهنه، ووضع لوائح واشتراطات وضوابط وتسهيل الحصول على تمويل وقرض ميسر لمشتغله، ولدينا محاولات جادة من قبل جهات إشرافية لجعل هذا العمل حقيقيا للباحث عن عمل يمثل مصدرا له للدخل ولدينا أيضا سعي حثيث للاعتراف بشرعية عمل هؤلاء الباعة وشرعية العمل الذي يقومون به وضمان أن يبقى هذا العمل ملاذا آمنا لصاحبه يقيه عوز الدنيا ويفتح له أبواب الرزق التي شرعها الله في البيع والتجارة، ولدينا قبل هذا وذاك نية صادقة جادة في تنظيم هذه المهنة إيمانا منا بأنها مهنة قد تكون ذات جذب سياحي أولا إن طوعت لهذا الغرض كما سلكت بعض المدن هذا المسلك وأيضا هي مهنة ستسهم في توظيف عدد من أبنائنا وبناتنا وتوفر لهم سبل عيش كريمة بدلا من الاعتماد على مصدر أحادي للوظيفة ولدينا يقين بأن كل ما قيل آنفا كثير منه سيتحقق إن وجد المخلصون للوطن والمواطن وهذه مسألة وقت. علني أكون صائبا فيما ذهبت إليه.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها ...

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج...

الأشجار تموت واقفة

تروي لنا الحكايات انه في جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادي أنهم اذا أرادوا اقتطاع شجرة فان القبيلة تجتمع من حولها وتاخذ في لعنها وبعد ايام تموت الشجرة. هكذا وردت هذه العبارة على لسان الممثل الهندي عامر خان في فيلمه " الطفل المميز" أو بالهندية ان أصبت نطقه فهو " تاري زامن بار" Taare Zamen Par . ويتحدث الفيلم عن طفل صغير لديه صعوبات في التعلم ولا يستطيع تمييز الحروف من بعضها وليست لديه المقدرة على الفهم كباقي زملائه وأقرانه مما جلب عليه سوء معاملة من والده أولا ومن معلميه ثانيا، غير أن مدرسا للفنون كان قد اصيب بمثل هذا المرض من قبل شخص حالة هذا الطفل وبدأ في علاجه واقناع الجميع بأنه طفل مبدع مبتكر لا سيما في الرسم. حالة هذا الطفل وغيره من الاطفال تشخص اليوم على أنها نوع من مرض التوحد وتتمثل أعراضها في الانعزالية وعدم التواصل مع الاخرين واضطرابات في النوم والاكل والشرب وغيرها من الاعراض، وقد يصاب المرء بالعجب عندما يقرأ بأن عددا من المخترعين والمفكرين والادباء والفنانين التشكيلييين العالميين كانوا مصابين بهذا المرض من أمثال موتسارت وبيتهوفن ومايكل أنغل...