التخطي إلى المحتوى الرئيسي

شوارع الموت



كل الحقائق العلمية والبراهين تشير إلى أن الإنسان إذا وصل إلى مرحلة معينة من العمر يبدأ في فهم ما يفيده وما يضره، ويبدأ أيضا في إدراك المخاطر المحدقة به حتى قبل حدوثها. ويتطور هذا العقل كلما كبر الإنسان في السن وازدادت تجربته في الحياة وازداد تحصيله العلمي، ويمكن أن يطلق على الإنسان المتعلم " إنسان واعي"



الا أنه من غير المنصف إطلاق مسمى الوعي على الإنسان المتعلم الحاصل على الشهادات العلمية فقط، بل إن الإنسان الواعي هو الإنسان المدرك لعواقب الأمور ومخاطرها ويزن كل أموره بميزان العقل والحكمة لان عقل الإنسان عبارة عن تراكمات تكتسب يوما بعد يوم.


ما نراه كل يوم من تصرفات من أناس يعدهم المجتمع من المتعلمين الحاصلين على أرفع الدرجات العلمية وأرفع الوظائف والرتب العملية لا توحي بان الإنسان المتعلم أصبح مدركا لمعنى المسؤولية ومتحملا لها ولم يصل بعد إلى مرحلة الوعي التي ربما وصلها قبله إنسان مثله لم يصل إلى مرحلته في المستوى العلمي والوظيفي.


ما دعاني إلى الذهاب إلى هذا الاستنتاج بعض المواقف الصادرة عن بعض الناس عندما يجلس وراء مقود سيارته حيث يطلق لها العنان لتسابق من هم بجانبه وليقنع عقله ونفسه بأنه هو من يستطيع فعل ذلك ولا يستطيع غيره من الناس بسبب امتلاكه ميزات خاصة تجعله مميزا عن باقي المحيطين حوله اللذين يفتقدون أبسط أنواع المتعة لا سيما متعة قيادة سيارة.

عصر يوم من الأيام وقفت مذهولا من شخصين أعرفهما جيدا وهما من فئة الشباب المتعلم اللذين وفرت لهم فرص التعليم، هما يمتلكان نفس مواصفات السيارة فقررا الدخول في سباق للتحدي من سيكون الرابح ومن ستكون سيارته أسرع من الأخرى.


وعند انتهاء السباق الذي كاد أن يتطور إلى حادث يودي بأحدهما وقفت ناصحا ومعاتبا لهما على استهتارهما ولا مبالاتهما، فما كان منهما إلا أن استمعا إلى كلماتي الأولي بحكم المعرفة بيننا ووقفا يستمعان إلى المحاضرة التي ألقيتها عليهما بمخاطر السرعة وضرورة المحافظة على النفس.

إلا إن إسهابي في تبيان خطورة ما قاما به دفع احدهما إلى النظر إلي بنظرة استهتار واستخفاف أراد فيها القول " أنت لا تفهم المتعة التي نجنيها من وراء هذا السباق" فقام وسحب نفسه بعيدا عني وكأن الكلام موجه لي أنا وحدي فقط.


قد ألوم هذا الشاب وغيره من المتعلمين على استهتاره بكلام النصح، وقد ألوم من جانب آخر حملات التوعية في عدم مقدرتها على إيصال رسالتها لشريحة هؤلا الشباب.


التوعية المرورية بحوادث السير والحملات التي تقوم بها شرطة عمان السلطانية وغيرها من الجهات الأخرى لم تستطع الوصول بعد إلى الجهة المستهدفة، حيث أن الوسيلة المستخدمة في إيصال الرسالة ضاعت بين الرسمية والشعبية وضاع بينهما الكثير من الأرواح والأنفس.

هنالك الكثير من الندوات والمحاضرات التوعوية في كافة أرجاء السلطنة تسرد وبشكل تفصيلي أسباب حوادث المرور وارتفاع أرقامها يوما بعد يوم، ولكن يبقى رواد هذه الندوات والمحاضرات هم من المدعوين الرسميين ومن تعنيه هذه الرسالة غائب عنها، ربما لأنها لا تناسب سنه أو مستواه العلمي أو تفكيره أو حتى ما يقال فيها، فتذهب كل تلك الجهود أدراج الرياح.


ما نحن بحاجة إليه لإيقاف هذا النزيف هو إعادة توجيه الرسائل وإيجاد القنوات المناسبة التي توصل الرسالة بفاعلية أكبر ولشريحة أعرض ولنبدأ معا من المتسبب الرئيس في هذه الحوادث لنبدأ التوعية من شوارع الموت.

أخيرا، هنالك حقيقة يفهمها كل البشر بأنه لا يوجد في الحياة ما هو أغلى من النفس، ومن الغباء أن يزهق الإنسان روحه بسبب عدم وعيه وإدراكه لهذه الحقيقة، ولو قدر لهذا الإنسان الذي أزهق روحه بيده العودة إلى الحياة مرة أخرى لاتهم نفسه بالغباء والتقصير وأن السبب الذي أفقده روحه كان من الممكن تجاوزه والنجاة بنفسه من الهلاك.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها ...

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج...

الأشجار تموت واقفة

تروي لنا الحكايات انه في جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادي أنهم اذا أرادوا اقتطاع شجرة فان القبيلة تجتمع من حولها وتاخذ في لعنها وبعد ايام تموت الشجرة. هكذا وردت هذه العبارة على لسان الممثل الهندي عامر خان في فيلمه " الطفل المميز" أو بالهندية ان أصبت نطقه فهو " تاري زامن بار" Taare Zamen Par . ويتحدث الفيلم عن طفل صغير لديه صعوبات في التعلم ولا يستطيع تمييز الحروف من بعضها وليست لديه المقدرة على الفهم كباقي زملائه وأقرانه مما جلب عليه سوء معاملة من والده أولا ومن معلميه ثانيا، غير أن مدرسا للفنون كان قد اصيب بمثل هذا المرض من قبل شخص حالة هذا الطفل وبدأ في علاجه واقناع الجميع بأنه طفل مبدع مبتكر لا سيما في الرسم. حالة هذا الطفل وغيره من الاطفال تشخص اليوم على أنها نوع من مرض التوحد وتتمثل أعراضها في الانعزالية وعدم التواصل مع الاخرين واضطرابات في النوم والاكل والشرب وغيرها من الاعراض، وقد يصاب المرء بالعجب عندما يقرأ بأن عددا من المخترعين والمفكرين والادباء والفنانين التشكيلييين العالميين كانوا مصابين بهذا المرض من أمثال موتسارت وبيتهوفن ومايكل أنغل...