مطر الغــدر
كثيرا ما سمع هذا الكلام بان قدومه الى هذه الدنيا سرع برحيل والدته، لكنه كان يلتزم الصمت في كل مرة يسمع فيها هذا الكلام، لم يكن يعي ما معنى ذلك.
أول صرخة أحتجاج اطلقها لدى مقدمه الى هذه الدنيا تلقفتها والدته التي احتضنته بحنان الام وان لم يكن طفلها الاول لكن ككل الأمهات ضمته إلى صدرها وأطعمته وبدا هو في ذلك الوقت مستمتعا بحنان الام وحليبها الذي يشبه العسل المصفى في طعمه.
كنت بؤسا على والدتك! لم تعرف الراحة منذ قدومك الى هذه الدنيا كانت تعاني الكثير من المتاعب وجئت انت وزت من متاعبها..
كعادته لجأ الى صمته وعزلته كجدار الطين في بيتهم القديم، خنقته العبرة والشعور بالذنب ولم يقل شيئا لخالته التي كان يناديها بأمي تلك الام التي لا يدري الى هذا اليوم كيف رحلت بقدومه وهو الذي يذكر اباه الذي جاء حاملا الخبز والعسل والحليب واللبن والفواكه الى غرفة أمه بالمستشفى وقبل جبينها وهنأها بقدومه.
مبروك علينا هذا الطفل يا فاطمة اللهم أجعله بارا بوالديه وارزع البركة فيه وفي ابنائه.
ويذكر أيضا أعذب كلمات سمعها من أبيه وهو يؤذن في أذنيه، صحيح انه لم يكن يعي ما معنى ذلك الكلام العذب الجميل لكنه أطلق صيحة مدوية في أرجاء الغرفة طلبت امه من أبيه أن يرجعه اليها لترضعه.
هذا الولد يبدو انه سيكون شقيا، منذ ولادته لم يتوقف عن الصياح..
هل يا ترى حنان الوالدة هي من تنبأ بمستقبله أم انها كانت تدرك بحكم الفطرة بانه سيكون آخر ابنائها وسيعجل برحيلها أم انها كانت تداعبه بتلك الكلمات القاسية كما تداعب كل أم مولودها الفرحة به.
قريته يحتضنها الجبل وتطل منها النخيل السامقات بسعفها الخضراء وثمارها الذهبية اللامعة واشجارها الوارفة المحملة بالكثير من الفواكه والثمار حتى انها كانت تعد من أخصب البلدان لوفرة المياه بها ولتفاني أهلها واشتغالهم بالزراعة وعنايتهم الفائقة بمصدر المياه الوحيد فلج المرفع الذي يسقي كل القرية التي حملت اسمه أيضا.
يذكر التفاصيل الدقيقية وكأنه يراها ماثلة أمام عينيه الان وهو يتخصر أصبع أبيه الذي يقوده الى شريعة الفلج ومشهد البياض الناصع الذي كان يعكس ملابس أهل قريته وعماماتهم وانعكاس ذلك البياض على صفحة ماء الفلج .
اليوم بغيتك تجي معي "القعادة" محتاجين نسقي "الشخور" لان مانا ما يكفي نسقي به "مال صالح" و"الشخور" ..
اكتب "البدور" حال محمد بن علي، "بادة صالح" حال خلفان بن سعيد، "الشروق" رفع أبي أصبعه فأمر الدلال الكاتب " الشروق" حال سليمان بن سيف .
من يومها فهمت " القعادة" التي يشتق اسمها من قعد ويقعد بمعنى يرهن وهي بمعنى بيع أو استئجار حصص ماء الفلج، رأيت بعدها أبي يتوجه الى الدلال ليدفع ثمن ما استأجره من حصة ماء الفلج وسمعت أبي يهمهم مع الدلال بكلمات التي لم أعيها في ذلك الوقت.
لما تدق الساعة خمس دقات ازعق علي عشان أرد الفلج..
هكذا كنت الساعد الأول لأبي، كان يعتمد علي في معرفة الوقت وموعد حصته في الفلج في طريقنا ونحن نتبع الفلج في الساقية الكبيرة كان يأمرني بتنظيف بعض الشوائب التي قد تعيق انسياب الفلج وكان يشرح لي نظام " المحاضرة " قبل قدوم الاختراع الجديد الساعة الكبيرة المعلقة وسط جدار الطين في "مسجد بيت سليم" والتي صارت حديث أهل القرية كلهم عندما جلبها محمد بن علي الذي كان يدرس بالخارج وبدأ في تعليم " عقيد الفلج" على كيفية استخدامها لتنظيم عملية توزيع ماء الفلج بين الاهالي.
"الاثر" عن نصف ساعة و"البادة" عن ربع ساعة و... الخ
بوصولنا إلى " الشخور" كان أبي قد بدأ في الاسترسال في شرح نظام " المحاضرة" النظام القديم الذي كان الجميع في عمان كلها يتبعه، الشمس والنجوم هما محور هذا النظام الهندسي القائم علي حساب الدقائق والساعات، السارية الصغيرة التي كانت تتوسط الميدان هي العقرب الكبير وعدد من الحصايات مركوزة في الأرض بخطوط طولية وعرضية على يمين السارية ويسارها هي العقرب الصغير، حركة الشمس من الصباح إلى المساء كانت تحدد بيمين السارية وشمالها والنجوم أفولها وطلوعها هي المواقيت الصحيحة لانصبة الفلج، مسميات كثيرة قالها أبي وهو ينتظر وصول ماء الفلج المتدفق كالشلال إلى " الشخور " لم أحفظ الكثير منها إلى يومنا هذا الشعرى، الزهرة، سهيل، وغيرها من أسماء النجوم التي كانت هي البديل عن ساعة المسجد الكبيرة.
يوم ممطر جميل بجمال قريتي النائمة في أحضان الجيل أخذت العبرة خالتي وبدأت في سح دموعها على الرغم من لفحة النسيم العليل المشبعة برائحة المطر الآتية من الخارج عبر نافذة بيتها الصغير الذي يضم غرفتان نتقاسم أنا وأولادها السبعة أحداهما والأخرى هي وزجها وأبنها الرضيع، تذكرت خالتي المطر بمزيج من الفرح والحزن، دموعها امتزجت بابتسامة ارتسمت على خد غزته خيوط من التجاعيد ليست من كبر سن وإنما من حمل طويل، التفتت إلي بنفس الابتسامة واحتضنتني كمن ذكرها بذكرى غالية عليها..
أنت والمطر ذكراني بوالدتك، في ذلك اليوم كانت ذاهبة الى الفلج وبدأت الغيوم البيضاء تتشكل فوق رؤسنا الى ان انفتقت تلك الغيوم عن مطر حمل البشر الى قريتنا بزوال سنوات من القحط والجفاف، همت بالعودة الى البيت وفي طريقها وقعت على ظهرها وسقط ما كانت تحمله ولم ينتبه اليها الا " البيدار" عبيد الذي كان يسقي صرمه..
لم أتمكن أو لم اشأ الخلاص من حضن عمتي التي طوقتني بيديها وضمتني الى صدرها بقوة وحنان وزادت في ذلك عندما وصفت لي حالة أمي التي حملوها من " الشريعة" الى بيتنا وهي في حال شبه اغماءة من أثر السقطة المدوية على الارض الصخرية لم تتمكن بعدها من معرفة أي أحد الا طفلها الصغير ذو الشهر والنصف فارقت بعدها الحياة تاركة ورائها أرضا خصبت بماء المطر وحزنا عميقا انغرس في نفوس أهل القرية جميعا..
يومها كرهت المطر لانه يحمل الي رائحة من كانت سببا في قدومي الى الحياة وكنت كما يقال لي سببا في رحيلها عن الحياة كرهت المطر والفلج الذي عشقته وسبحت فيه وشربت من مائه وكنت اتفاخر فيه بانني الصياد الاول في اصطياد " الصد" متفوقا على ابناء عمي وخالتي وكنت فيه الغواص الاول الذي يبدأ السباحة من " ثقبة الشريعة" وحتى " ثقبة المورد" بدون توقف في حين كان أقرب منافس لي وهي ابني عمي محمود لم يكن ليستيطع الصمود لاكثر من نصف المسافة ثم يتوقف عند " ثقبة العامد" ويكمل بعدها السباحة ليجدني مبتسما ورافعا يداي عاليا بالفوز مع تصفيق حاد من باقي أبناء عمومتي المتجمهرين لمشاهدة مسابقة السباحة .
من يومها لم أذهب الى الفلج ولم أصحب أبي عند ذهابه لرد الفلج وتحت اصراري عدم الذهاب معه اضطر الى اللجوء الى ابن عمي سعيد ليزعق عليه عندما تدق الساعة خمس دقات.. تتبع
عبدالله بن سالم الشعيلي
تعليقات