التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مسافة أمان



 “عندما نخطىء في حساب المسافات نفقد علاقتنا بالآخرين” مقولة قرأتها ولا أذكر قائلها ولا مناسبة قولها لكن عمق معناها جعلني أستهل بها هذا العمود، فكل علاقة سواء أكانت بالقرب الزائد أم بالبعد القصي تسرّع في إنهاء أمد تلك العلاقات ما لم تكن العلاقة مضبوطة على مسافة معينة تضمن الارتداد والاقتراب قبل وقوع الاصطدام.

كتب الكثير عن محاسن ترك مسافة أمان بين الناس خصوصا مع من تحب فلا الاقتراب الزائد محمود ولا الجفاء والبعد محمود أيضا، فخير الأمور الوسط وخير العلاقات ما تبقى على مسافة يحافظ فيها الطرفان على خصوصية كل منهما ويضمن عدم التداخل أو التقارب المفرط بين الطرفين فلكل شيء حدود يجب ألا تعبر وخصوصيات يجب ألا تنتهك حتى وإن كانت من أقرب الناس أو أقرب الشخوص للإنسان.

 

الحياة تعلمنا أن كل شيء فيها خلق محافظا على مسافته الآمنة من دون أن يتداخل أو يبتعد عن الشيء الآخر ولعل المثال الأبرز يأتي من المسافة الآمنة التي تتركها المركبات في الحارات والشوارع، فالاقتراب الأكثر من اللازم ينبئ بوقوع حوادث والابتعاد الكثير يخلف وراءه بطئا وتأخرا في المسير، حتى أن المركبات الحديثة صممت بمجسات آلية تساعد على إبقاء المسافة الآمنة حتى من دون الرجوع إلى الإنسان السائق الذي قد لا يعي في كثير من الأحيان ضرورة ترك تلك المسافة بينه وبين من أمامه، كذلك فإن حركة الكون والكواكب وبعدها بمسافة آمنة عن بعضها البعض يجعل هذا الكون يسير بمسارات جميلة لا تتداخل فيها مسارات على أخرى ولا يطغى فيها شيء على شيء آخر فكل شيء كما قال سبحانه وتعالى عنده بمقدار.

المحافظة على مسافات الأمان في العلاقات وفي الحياة تمنع وقوع كثير من الحوادث التي باتت تؤلم البشر وتؤرقهم وأغلب هذه الحوادث ناتج عن حسن الظن الزائد بالشيء أو سوء الظن الفاحش وكلاهما غير محمود في احتساب العلاقة بين أي طرف، فلو التزم الفرد في إبقاء العلاقات خصوصا الإنسانية منها على مسافة أمان بينه وبين الآخرين لاختفت كثير من تلك الآلام والأوجاع ولأوجد الطرفان بعضا من العذر للآخر في تفسير كثير من التصرفات التي تكون نتيجتها غالبا من حسن الظن أو سوئه.


القرب الزائد والاهتمام المفرط بالآخر قد يفهمه البعض على أنه نوع من التقدير والتبجيل والاحترام وهو ضرورة ملحة في بعض الحالات خصوصا أن تعلق الأمر بوالدين أو زوجة أو رب عمل وغيرها من الصداقات القريبة التي يلتصق فيها الطرفان ببعضهما ليكونان جسدا واحدا، غير أن هذا النوع من الالتصاق قد يولد في بعض الأحيان نفورا وعداوة إن لم يلتزم أحدهما أو كلاهما بحدود المسافة المرسومة له ولم يحترما حدود وخصوصية كل منهما للآخر وقد تنقلب تلك العلاقة رأسا على عقب فيحل الجفاء بدلا من الحب وكما قالت العرب قديما ” أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما “.

 

تفسير ما قالته العرب أن لا شيء في العلاقات بين البشر ثابت ولا التطرف في تلك العلاقات محمود فالاعتدال هو السمة الثابتة التي يمكن أن يبنى عليها كثير من العلاقات فالحب يكون بمقياس مسافة الأمان، كذلك البغض أيضا يكون بمسافة أمان يلتزم بها الطرفان، وهذا ما نشهده كثيرا في العلاقات السياسية التي تحاول ألا تكون فيها عداوة دائمة أو حب دائم فالعلاقة قائمة على المصلحة المشتركة وعلى احترام الآخر وتقديره وعدم التدخل في شؤونه الداخلية وما يحفظ الكثير من العلاقات ويصونها ويضمن بقاءها واستمرارها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها ...

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج...

الأشجار تموت واقفة

تروي لنا الحكايات انه في جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادي أنهم اذا أرادوا اقتطاع شجرة فان القبيلة تجتمع من حولها وتاخذ في لعنها وبعد ايام تموت الشجرة. هكذا وردت هذه العبارة على لسان الممثل الهندي عامر خان في فيلمه " الطفل المميز" أو بالهندية ان أصبت نطقه فهو " تاري زامن بار" Taare Zamen Par . ويتحدث الفيلم عن طفل صغير لديه صعوبات في التعلم ولا يستطيع تمييز الحروف من بعضها وليست لديه المقدرة على الفهم كباقي زملائه وأقرانه مما جلب عليه سوء معاملة من والده أولا ومن معلميه ثانيا، غير أن مدرسا للفنون كان قد اصيب بمثل هذا المرض من قبل شخص حالة هذا الطفل وبدأ في علاجه واقناع الجميع بأنه طفل مبدع مبتكر لا سيما في الرسم. حالة هذا الطفل وغيره من الاطفال تشخص اليوم على أنها نوع من مرض التوحد وتتمثل أعراضها في الانعزالية وعدم التواصل مع الاخرين واضطرابات في النوم والاكل والشرب وغيرها من الاعراض، وقد يصاب المرء بالعجب عندما يقرأ بأن عددا من المخترعين والمفكرين والادباء والفنانين التشكيلييين العالميين كانوا مصابين بهذا المرض من أمثال موتسارت وبيتهوفن ومايكل أنغل...