التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العشرون

 

        أراني الآن في سن ابنتي الملتحقة بالجامعة حديثا، أوراق مبعثرة وكتب متناثرة وأفكار مشتتة ودفق كبير للطاقة يتمنى أن يجرب كل ما في الكون ويعرف كل ما في الوجود واسئلة حائرة متطايرة تحوم في كل مكان عمن أنا وكيف سأكون وماذا أريد، أسئلة تطرح على العقل لأول مرة في العشرين من العمر فقط أسئلة عن الذات والوجود والحاضر والمستقبل قد لا يجد كثير من الوالدين أو الأصدقاء إجابة عليها لكن الزمن في أغلب الأحيان كفيل بأن يجيب عن بعضها.

عتبات الحياة تبدأ مطباتها في العشرين، أول عتبة إما أن يرتقيها الفرد أو يقع فيها هي عتبة النجاح والفشل فالعشرين أو ما قبلها بقليل هي مفتاح لنجاح دائم أو فشل دائم او ربما تكون صرخة الاستيقاظ من الفشل والبدء بالنجاح فهي عتبة وعقبة توقيت ظهورها هو العشرين ولا حدود لافولها الا بانقضاء العمر، وثاني عتبات العشرين تأتي الصناعة واعني بها هنا صناعة الشخصية وصقلها وتنميتها وفيها يتحدد مسار شخصية الفرد او الشاب، ولا يتأتى لهذه الصناعة بالاكتمال الا ان تم الاشتغال عليها من الداخل والخارج فالداخل يعنى بالروح وتنميتها وتهذيبها وصقلها وتعليمها وهنا تأتي أدوار ثانوية ورئيسية لتلعب دورا محوريا في تشكيل وتهذيب هذه الشخصية الداخلية. أما عن الصناعة الخارجية ويقصد بها بناء شخصية الفرد الخارجية فتأتي هنا في مرتبة ثانية تكون أقل اهمية من المرتبة الداخلية وتعنى هذه الصناعة الخارجية في تشكيل الفرد في علاقاته الاجتماعية وتعاملاته مع المجتمع المحيط به واهتماماته ومواهبه وهواياته وهذا ما يترسخ  في العشرين من العمر ويبقى سائرا مع الفرد خلال عتباته القادمة من العمر.

أنظر الى الشباب اليوم فأجد أن كثيرا من الانوار قد انطفئت في دواخلهم وكثير من المواقد قد خمدت في خوارجهم، ترى ارواحا هائمة وأجسادا واهنة وعقولا غير مشحوذة، تبدو للرائي وكأنها كهولة مبكرة وشيخوخة مستعجلة في الروح والجسد، لا ترى فيها غير الوهن في التفكير والضعف في التدبير وربما عنا اعود الى نفسي لأقول بأن ما اطلقه ليس تعميما ولا شملا لكل من وصل الى اعتباب العشرين او تخطاها ولكنني هنا اتحدث بما أرى من حولي من حال وصل اليها بعض من شباب العشرين.


 

أدين للعشرين بكثير من الفضائل التي لا زلت الى اليوم أجنى ثمارها، ولو لا العشرين لما تمكنت من اكتساب هذه الثمار والمزايا منها بدايات القراءة المتعمقة في الفنون والاداب وانواع اخرى من القراءات تعمقت أكثر في مراحل تالية فصارت كالمخزون الجوفي لا ينضب معينه ولا يجف نبعه يلحقها تاليا الكتابة حتى وان كانت كتابات ليست بذات عمق او محتوى رصين لكن العشرين كفيلة بإذكاء شرارة المعرفة وصقلها، ومما أدين به للعشرين الابتعاد عن كل ما يدمر الروح والجسد من مغريات الشباب وطيشه فالحياة بكامل الصحة النفسية والعضوية تبدأ من العشرين وتتشكل فيها وتجنى ثمارها في عتبات العمر اللاحقة وهذا ما ألمسه اليوم مع كثير من الناس ممن فرط في عشرينتيه واسرف في تدمير صحته من ندم وحسرة على ما أقدم عليه في شبابه.

أدين للعشرين ايضا في السير في بقاع الارض ورحابها والتعرف على ملكوت الله والكون وما خلق من كائنات واناس تختلف طبائعهم وعاداتهم وثقافاتهم في أرجاء الارض قاطبة، فالعشرين هي بداية لتشكل هذا المسير وهي من أجمل لحظات العمر للاستمتاع بالحياة وزخرفها وفهمها والسير فيها.

أدين للعشرين بالكثير من الفضائل التي تعلمتها من الاسرة الصغيرة والكبيرة في القرية والمدينة والجامعة والنادي والعمل ولاصدقاء الشباب الذين لا يزالون هم خير الاصدقاء حتى اللحظة، أتذكر العشرين وكلي امتنان لما قدمته لي من أخطاء وعثرات وهفوات تعلمت منها أن اصوب ما استطعت واتجنب ما قدرت عليه من هفوات وتعلمت أيضا أن على كل فرد منا غادر هذه العتبة الى عتبات اخرى أن يسرد وينقل تجربته ومعايشته لهذه العتبة لغيره من الاخوان والابناء والاحفاد فلعل أجمل لحظات الحياة هي لحظة العشرين هي لحظات الشباب.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها ...

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج...

الأشجار تموت واقفة

تروي لنا الحكايات انه في جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادي أنهم اذا أرادوا اقتطاع شجرة فان القبيلة تجتمع من حولها وتاخذ في لعنها وبعد ايام تموت الشجرة. هكذا وردت هذه العبارة على لسان الممثل الهندي عامر خان في فيلمه " الطفل المميز" أو بالهندية ان أصبت نطقه فهو " تاري زامن بار" Taare Zamen Par . ويتحدث الفيلم عن طفل صغير لديه صعوبات في التعلم ولا يستطيع تمييز الحروف من بعضها وليست لديه المقدرة على الفهم كباقي زملائه وأقرانه مما جلب عليه سوء معاملة من والده أولا ومن معلميه ثانيا، غير أن مدرسا للفنون كان قد اصيب بمثل هذا المرض من قبل شخص حالة هذا الطفل وبدأ في علاجه واقناع الجميع بأنه طفل مبدع مبتكر لا سيما في الرسم. حالة هذا الطفل وغيره من الاطفال تشخص اليوم على أنها نوع من مرض التوحد وتتمثل أعراضها في الانعزالية وعدم التواصل مع الاخرين واضطرابات في النوم والاكل والشرب وغيرها من الاعراض، وقد يصاب المرء بالعجب عندما يقرأ بأن عددا من المخترعين والمفكرين والادباء والفنانين التشكيلييين العالميين كانوا مصابين بهذا المرض من أمثال موتسارت وبيتهوفن ومايكل أنغل...